سألت البروفيسور تشونغ جي كون، عن السبب الذي دفع به إلى تعلّم اللغة العربية، والخوض في بحار ...، فأجاب قبل أن أكمل: هتفنا في شوارع بكين لجمال عبدالناصر وضد العدوان الثلاثي على مصر، فوجدت نفسي منشدّا إلى هذا العالم المكتنز بالحضارة والثقافة والتجارب الإنسانية الباهرة. لا يحتاج هذا الأكاديمي الصيني إلى سبب أقوى لكي يرصد أكثر من نصف عمره في دراسة العربية، والترجمة عنها، وتعليم فنونها وآدابها لمواطنيه بحماسة واضحة.. وفي المقابل، لم تحتج اللجنة التحكيمية لجائزة الشيخ زايد للكتاب إلى أكثر من ذلك، لكي تختار الدكتور تشونغ شخصية ثقافية للعام 2011. الدكتور تشونغ ليس ايديولوجيا صينيا، بل على العكس من ذلك، فقد وجه في حواره مع “الاتحاد الثقافي” (ينشر الأسبوع المقبل) انتقادات لاذعة للثورة الثقافية الكبرى التي قادها ماو تسي تونغ في ستينيات القرن الماضي، وأثنى على عصر الانفتاح الذي تعيشه بلاده منذ قرابة ثلاثة عقود. وهذا ما يعطي قيمة مضافة لملاحظته عن سبب توجهه العلمي. فقد درس العربية بمؤثرات نابعة منها في الأصل والأساس. مثّل له وقوف مصر وعبد الناصر بوجه العدوان الثلاثي مدخلا مفتاحيا، لكن المعطى الحضاري العربي وحضوره المعنوي التاريخي والمعاصر، كان هو الجاذب له لكي يسلك “طريق الحرير” في رحلة معرفية إلى بداياته الأولى. وتلك رحلة تفترق في جذورها وفروعها عما يشابهها من رحلات معرفية. هنا تقف جائزة الشيخ زايد للكتاب، على تلك الافتراقات بدلالات لافتة. فللمرة الثانية تختار مستعربا ليحمل جائزة شخصية العام الثقافية، بعد الإسباني بيدرو مارتينيث مونتابيث عام 2009. وللمرة الأولى تتجه نحو الشرق، في رحلة معاكسة لكي تستكشف الحضور العربي على الطرف الآخر من “طريق الحرير”.. وكأنها بذلك تعيد مسألة الاستشراق، التي كانت قضية جدل وخلاف بين كثير من المفكرين العرب، إلى مسارها الواجب. وهذا ما ينبهنا إليه الدكتور تشونغ. فهو يصرّ على أنه “مستعرب” وليس “مستشرقا”. وتلك مسألة بسيطة وشائكة في الوقت عينه. بساطتها جغرافية، إذ عندما ييمم دارس صيني جهده نحو المنطقة العربية فهو لا يتوجه شرقا. أما تعقيدها فهو مفهومي، إذ إن حركة الاستشراق ارتبطت في أذهان العرب بالحركة الاستعمارية الغربية، منذ بداياتها مع الحملات الصليبية ومن ثم تجلياتها التي رافقت مشاريع الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية. وقد أصبح هذا الواقع وصمة يراها العرب في جبين الحركة الاستشراقية دون أن يشفع لها تفرعها إلى مدارس، ارتبط بعضها بنيويا بالنزعة الاستعمارية كما هو حال المستشرقين الفرنسيين والإنجليز، ونشأ بعضها وعمل وفق اعتبارات معرفية كما هو حال عدد من المستشرقين الألمان، أما بعضها الآخر فقد تميزت نظرته إلى العرب والمسلمين بالإنصاف والتقدير، كما هو حال الدارسين الإسبان الذين كانوا أول من أسس مفهوم الاستعراب بدلا من الاستشراق. تدلنا جائزة الشيخ زايد للكتاب، في تكريمها للمستعربين، على معنى جديد لمقاربة قضية الاستشراق من حيث توقفت عنده المقاربات السابقة، وأهمها دراسة إدوارد سعيد التأسيسية في هذا الحقل. ينبغي على كل مقاربة جديدة أن تباشر جهدا تفكيكيا للمركزية الغربية التي احتكرت طوال عقود، أو قرون، دراسة الشرق العربي والإسلامي بمعايير مشكوك في براءتها.. ومثل هذا التفكيك، لا يكون إلا بسلوك الاتجاه المعاكس لطريق المستشرقين الاستعماريين.. أي بصيغة أوضح، العمل على استجلاء صورتنا في مرايا المنصفين، حتى لو تحتّم علينا أن نطلب تلك المرايا.. في الصين. adelk58@hotmail.com