من اللوحات الجميلة التي أحب أن أصورها، والتي يمر بها الناس وقد لا يتنبهون لها وجود كرسي فارغ في حديقة عامة، خاصة في فصل الخريف الماطر أو الشتاء الثلجي أو في فصل الربيع حيث يفرح برائحة الزهور ولونها، كثيراً ما أتوقف عند هذا المشهد خاصة في المدن الأوروبية العريقة، حيث للحديقة العامة موقعها، وللكراسي المسنة فيها تاريخها، ترى هل يتذكر ذاك الكرسي كل العابرين مثل: العجوز التي كانت تحرص أن لا يسبقها إليه أحد، تجلس منتظرة الشمس في أول دفئها وإشراقتها، تجلس محتضنة حقيبتها الأنيقة، تناظر الناس، تقضي الساعات التي تمر بغير فرح حقيقي، وقبل أن تودعه تظهر من حقيبتها زجاجة ماء صغيرة، وتتناول حبات من أدوية مختلفة، وتغادر عل يوم جديد آخر يجمعها به.
عاشقان لاذا به، وهما يوشوشان بعضهما كطائري حمام، يسترخيان في زهو عمرهما، ويبثان بعضهما أشواقاً لا تنقطع، قد يغنيان من نشوتهما، قد يحفران عليه اسميهما وسط رسمة قلب يتمنيان أن ينبض بحرارتهما ولقائهما وذكرياتهما.
مسنان في خريف العمر، يتدثران بملابس ظلا مخلصين لها، وعكاز للرجل العجوز الذي يتمنى أن يودع الحياة قبل زوجته لكي لا يبكيها وحده، ولا يتعذب بفراقها بعد رحلة عمر امتدت طويلاً، ولهما ذكريات محفورة على الكرسي.
سكير الحي المخمور بالحياة وربما بخيانة فتت كبده، يلوذ بالكرسي حين يريد أن ينام، تاركاً زجاجته شبه الفارغة تحته، وحقيبة شبه خاوية تختصر حياته، يتمدد عليه ليصحو من غيبوبته الدائمة، وقد يتذكر من عبثت بدنياه.
مهاجر فقير حتى العظم، يجلس عليه ليكتب رسالة قد لا تصل لبلده البعيد، ليؤكد لأهله أنه ما زال حياً، ولكن لا يرزق، وقد يسأل هل ما زالت حبيبته تنتظره بالوفاء؟ وهل خف سعال الأم العجوز؟ وهل الأب ما زال عاطلاً، عاجزاً؟ وكيف هن الأخوات، هل ما زلن تحت ستر البيت؟
طالبات عائدات بحقائبهن المدرسية، وقميص الثانوية الأبيض، يثرثرن بأحلام العمر، ويتهامسن عن مغنٍ تشتعل صوره في لوحات الإعلانات، يصمتن ليسمعن أغاني عاطفية عبر سماعات الأذن، يتنهدن، ثم يتذكرن الساعة، فيجفلن راكضات يسابقن بعضهن، وصراخهن بدأ يعطي طعماً للأنوثة.
فنان يُظهر من حقيبته الجلدية دفتراً أبيض، ويبدأ يستدعي خطوطاً وألواناً وسط دخان من سيجارته يكاد لا ينطفئ، يبدل وضع رجليه مراراً على ذلك الكرسي، تضيء داخله سعادة تعوّد عليها حين ينجز ما يفرحه، فجأة أصبحت تلك الأوراق البيضاء تدب فيها ألوان الحياة.
كاتب يتأمل الوجوه، والملابس ودبيب الأقدام، مطلقة تدفع عربة طفلها الوحيد، عازف يبكّي أوتار كمانه، وعجوزان مدبران يعدان الخطوات، وكرسي وحيد وبعيد تحرسه ظلال الحديقة.



amood8@yahoo.com