أقفل الشاعر باب غرفته وراءه وراح يطالع في الورقة طويلا علها تنطق بالكلمات التي تخنق روحه ولا يستطيع أن يبوح بها لأحد. اولها كلمة الحرية التي يراها يوميا تكتب بالدم الأحمر على شاشات التلفزيون، فكيف يتجرأ ليكتبها بلون رومانسي أزرق أو أخضر. هذه الكلمة التي تعذب بسببها ملايين البشر ومات في حضنها المئات سعداء وهم يفارقون الحياة النقيضة، الحياة الملطخة بالذل وفقدان الكرامة. وحين حمل القلم بيد مرتجفة كتب خربشات لم يفهمها هو نفسه، حتى أن الورقة صدّته بعيدا وهي تتألم من قسوة هذا القلم المريض الذي اعتاد أن يمتدح نفسه ويفخر ببطولات غيره، بينما هو في الحقيقة مجرد صدى، مجرد ببغاء يردد ما يسمعه من أصوات وإيقاعات وأشعار عمرها أكثر من ألف عام. هذا الشاعر الصدّاح في بلاط البذخ، المداح على أبواب القصور اكتشف أن الحرية في قصائده كلها كانت بلا معنى، بلا دم ولا حياة، ولذلك قرر أن ينزوي في الصمت فهو خير وشفاء. لكن ضجيج الكلمات الحرة ظل يتفجر في أعماقه إلى أن اختنق ومات. فتح الحكيم باب غرفته الموصدة منذ سنين طويلة وخرج يصرخ كالمجنون في الشوارع الخائفة مطلقا كلمات غريبة لم يعرفها الناس من قبل، كلمات مثل (الحرية- الحب- الوضوح)، والبشر النائمون في مستنقعات الذل راحوا يرددون وراءه هذا النداء الغريب، فاكتشفوا أن لهم لسانا حقيقا قد ينطقون به وقد عاشوا سنين يرون صورهم في المرايا وهم بلا أفواه، ظهورهم محنية وهم يلتقطون الفتات الرخيص من أرضهم التي تنبت فيها ثمار الذهب، ولكنها تقطف بيد الغرباء والخونة. ولم يعرف الحكيم أن كلماته تلك تحولت في ذلك اليوم إلى غضب أحمر وسال بسببها نهر من الدم البريء. وبعده عرف الناس فن المشي برؤوس مرفوعة وفن النطق بكلمات صادقة وكل من يتخاذل ويقبل بغير ذلك، فإنه يفقد ذاته الأصيلة ويسقط في مستنقع الخوف الكبير. وقف الجبان على عتبة باب غرفته مترددا، هل يدخل أم يخرج. وقد أتاح له ذلك أن يراقب طيلة عمره شريط الحياة يمر أمامه من غير أن يكون فاعلا أو مؤثرا في الأحداث من حوله، والأفعال التي يقوم بها الداخلون والخارجون من الحياة هي التي تصنع الفرق دائما، بل هي وقود حركة البشر في صراعهم الأبدي من أجل استرداد الكرامة أو اكتسابها، أما الواقف المحتار بين خيارين، فهو مجرد حشو في فراغ الوجود. قطعة من حجر ثقيل لا يرفعها جناح الأمل ولا تزحزحها رياح التغيير. وهذا النوع من البشر قد يصبح شعبا بأكمله. والحرية أن تعمل وتكون مسؤولا عن فعلك والحرية أن تصمت لكي تطفئ كلام الخوف والحرية أن تصرخ عاليا لتزيح غمامة العتمة والحرية أن يرف قلبك ويرفعك إلى سماء المستحيل عادل خزام akhozam@yahoo.com