اتجهت بعض مؤسساتنا الحكومية مؤخراً لتنفيذ أفكار وبرامج تقوم على إنجاز العمل والمهام الموكلة للموظف من منزله، ولا تشترط عليه الحضور والجلوس بين جدران مكتبه لأداء مهامه الوظيفية بشكل اعتيادي، وهي فكرة جديدة ومبتكرة ولن نحكم عليها بالسلب أو الإيجاب لأنها حديثة العهد في مجتمعنا وإن أبدى البعض مخاوفه من أن يؤثر هذا الاتجاه وهذا المشروع الوليد على التوطين، ويجهض مساعي وبرامج الدولة في هذا الاتجاه الذي تسعى إليه جاهدة، خاصة في القطاع الخاص الذي ترى منه الأمرّين لتعيين مواطن، أو لزيادة نسبة المواطنين عُشر بالمئة.
إن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هنا هو هل يملك موظفونا ومؤسساتنا ثقافة العمل من المنزل، وهل ندرك ماهية المشروع وأبعاده وتأثيره على سوق العمل ومضمون العمل المنجز؟
هذه الفكرة ليست من بنات أفكارنا ولا هي من ابتكارنا واختراعنا، إنها فكرة مطبقة في العديد من الدول المتقدمة منذ زمن بعيد وآتت ثماراً جدّ مهمة وإيجابية إلى أبعد الحدود، ولم يكن يتصورها مبتكرو هذه المبادرة، من حيث أنها تعزز التماسك الأسري وتتيح مجالاً للمرأة وحتى الرجل في الالتقاء والجلوس مع أسرته لفترة أطول ومتابعة أوضاعهم وإدارة شؤونهم، ناهيك عن الفوائد الأخرى التي حققها هذا المشروع في تلك الدول وفي مقدمتها تخفيف الضغط المروري على الطرقات وتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، لأن الآلاف، بل عشرات الآلاف من الموظفين والموظفات لن يخرجوا إلى عملهم في الصباح، وسوف يقتصر ذهابهم إلى مقار أعمالهم في فترات متفاوتة لمناقشة الإنتاجية وخطط عمل الأسبوع التالي، وتسجيل الملاحظات، إن وجدت، على طريقة العمل.
وقد أشارت دراسات علمية أجريت على هذا النوع من البرامج إلى أن هذا النموذج من العمل ساهم في دعم السلوك الإيجابي عند الأبناء، وقلص بشكل كبير المشاكل النفسية التي يتعرض لها الموظفون، خصوصاً المراهقين منهم، والأهم من هذا وذاك أن هذا المشروع قلّص أيضاً من نسب الانفصال والطلاق بين الأزواج وحدّ كثيراً من المشاحنات اليومية، وقلل الضغوط على المرافق الحكومية العامة، وبالتالي خفف من الأعباء المالية على ميزانيات الدول التي وجهت الفائض من ميزانياتها للاستثمار في أماكن أخرى أكثر حاجة ونفعاً للمجتمع.
إن إنجاح مثل هذا المشروع يحتاج إلى ثقافة خاصة للتعاطي معه، بأن يكون وقت العمل في المنزل مقدساً، كما هو تماماً في موقع العمل، وهنا نتساءل: هل تستطيع المرأة مثلاً، وهي في المنزل، تؤدي أعمالها، أن تتغاضى عن طلبات زوجها المتكررة، أو أن تغض الطرف عن صدعة أبنائها وإزعاجهم؟ وهل سيحترم الزوج أو الزوجة أو الأبناء خصوصية الطرف الآخر عند إنجاز مهامه الوظيفية؟
إننا أمام قضية مهمة يجب أن ننشر الثقافة التي تدعم تطبيقها، ومناقشتها بشكل جدّي ووضع المعايير اللازمة لقياس فيما إذا كانت مجدية أم لا في مجتمعنا.


m.eisa@alittihad.ae