الناس أجناس، والوجوه مرايا، والنفوس بحار، وترب.. وجوه بشرية تصادفك وهي أشبه بالتماثيل الشمعية، جامدة، هامدة، ساهمة، ناقمة، مفعمة بخطوط عرض وطول، متشعبة، متسربة فوق وتحت الجلد.. وجوه غائصة، غاصة، شاخصة، مكفهرة، بعزة مريرة، سادرة، تغط تحت ركام من الأوهام، والألغام، والادغام، لا تعرف لها شيمة ولا قيمة.. وجوه تتخطى حدود الممكن، في الإمعان في التقطيب، ووضع الحجاب الحاجز بينها والآخر، وكأنها تريد أن تقول للناس أجمعين، اغربوا عني، فأنا ذاهبة إلى البعيد، ولا أريد ابتسامة ثغر ولا كلمة تدخل على أنني حي أُرزق، أعيش بين الناس.. وجوه خلقت هكذا، وعجنت وطحنت، وسحنت، فاستعصى عليها أن تكون غير ما هي عليه، لأنها إن فكرت تبديل جلدها، أصيبت بالألم، وينالها سوط عذاب.. وجوه يبدو أن جلدها، من حراشف كائنات بحرية قديمة قدم الزمان، والمكان، لا تستطيع أن تنقرض، ولا تستطيع أن تواصل مرحلة النمو الاجتماعي، كما يفعل بنو البشر العاديون، والذين حباهم الله، بقلوب خضراء، وعقول فيحاء، ونفوس هيفاء.. وجوه مزدهرة بالعمران، وزعفران الطيبة، وهيل المحبة، وزنجبيل الوفاء.. وجوه جُبلت على العطاء، والتآخي، والتواصل مع الآخر دون استنكاف، أو استخفاف، أو إسفاف، أو تعسف، أو تزلف.
وجوه نعمة من نعم الوجود أن تكون حاضرة، متيسرة بين الناس، لترطب وتخصب، وتخضب الحياة بابتسامة حية، وكلمة ليِّنة، وعطر هالة، يغدق ولا يفرق.. وجوه يشعر الإنسان أنه بحاجة إلى وجودها، بل إن الوجود نفسه لا يبدو مكتملاً بدون وجوه، أشرقت الشمس على وجناتها، ونام القمر على ثغورها، ونثرت النجوم ضياءها على مقلها، واستبسلت السماء من أجل إثرائها بالمطر، والماء والبرَدْ، وشيء من شهد الحياة، ورونقها، وأناقتها وتأملها.. وجوه تحبها دون أن تبذل جهداً في التفاصيل، ولا تتهجى سوى شهقاتك المتعطشة إلى حلم لا يقبل التأويل، أو التفسير.. وجوه تشعر أنها جزء لا يتجزأ من مكونات الطبيعة، ثمرها، وتزهرها، وتورقها، وتفرع أغصانها.
وجوه لامعة بالبهاء، ناصعة بألوان السماء والبحار والمُزن..
وجوه تمارس ضدك شغف التواصل، ولهف التفاعل، هي اللحظة الملتوية تحت الجلد، هي الومضة المتشظية في الشريان، هي الغمضة التي يتوسلها الجفن لكي يستريح على نشوة يافعة.. وجوه تريدها، ووجوه لا تريدها.. وجوه تتمنى أن تكون هي سمة الكون، صفة الناس جميعاً، وقانون من قوانين الطبيعة، يسرج خيوله عند مرابط الأحلام الإنسانية.. وجوه لا تتمنى أن تتكاثر أصنافها، خوفاً على فناء النوع البشري، لأنها وجوه مكفهرة.


marafea@emi.ae