اكتشفت، مع تراكم الأعوام والخبرة، أن كيفية تلقي الإنسان للأعمال الإبداعية تتغير بتغير الوعي الثقافي ودرجة نضجه، ولا يتوقف الأمر على مستوى التعليم، بل يضم إلى التعليم الثقافة التي يكتسبها الإنسان، وما تتيحه من أفق رحب أو أفق ضيق. أذكر أنني شاهدت فيلم “الملك وأنا” القديم، وخرجت من الفيلم شديد الإعجاب به، وظللت لسنوات متأثرا بشخصية الممثل يول براينر والممثلة ديبورا كير المعلمة الإنجليزية التي جاءت من إنجلترا لتعليم ولي العهد، فتصطدم بالملك الذي لم يفهم الكثير من سلوكها ولم يتقبله، ولكنها تستطيع السيطرة عليه بواسطة الآفاق الثقافية الجديدة التي تفتحها أمامه، والتي يتقبلها في اندهاش لا يخلو من عناد. ولكنها تنجح في تلقين الابن الصغير مبادئ الحضارة الغربية التي تنقله من وعي إلى وعي مخالف، وينتهي إلى تقبل الوضع الجديد، ويترك الحكم لابنه، رمز الجيل الجديد الذي أفلح في تمثل القيم الغربية. وأعترف أن الفيلم بهرني إلى أبعد حد، وظل يحتل مخيلتي، بل أتحدت اتحادا وجدانيا مع شخصية الابن الذي لابد له أن يستوعب قيم الحضارة الغربية الرأسمالية بوصفها الطريق الوحيد إلى التقدم، وظللت على هذا الاعتقاد سنوات، إلى أن تغيرت ثقافتي وصعدت أكثر فأكثر في درجات التعلم والوعي. وأذكر أنني عاودت مشاهدة الفيلم القديم بسبب لا أذكره، فإذا بالإعجاب القديم يتحول إلى نقيضه، واكتشف أن الفيلم فيلم استعماري بامتياز، وأن رسالته الماكرة إلى شعوب الحضارات القديمة التي وصلت إلى أوضاع التخلف، تقول: إن حضارتكم هي التخلف بعينه، ومن الأفضل لكم ـ يا أبناء العالم المتخلف ـ أن تتخلوا بالكلية عن هذه الحضارة، وتطرحوها وراء ظهوركم، وأن تتقبلوا، بدلا منها، حضارة العالم الغربي الجديد الرأسمالية، فهي سبيلكم الوحيد إذا شئتم التقدم، وإلا فلا فائدة. ولكن ماذا عن التراث الحضاري القديم لبلادنا؟ وماذا عن هوياتنا الثقافية الخاصة؟ كل هذا لا يهم، فالأهم هو أن تمضي في طريق الحضارة الغربية الرأسمالية الحديثة، وأن تتخلى عن ماضيك وعاداتك وهويتك الحضارية، وأن تستبدل بها هوية أخرى، هي هوية العالم المتقدم وطريق رأسماليته. وهكذا أدركت أن ملك سيام كان ملكا محكوما عليه بالموت لارتباطه الوثيق بالعالم القديم، وأن هذه النهاية هي عاقبة كل من يرفض قيم التقدم الغربي الرأسمالي، أما الابن الذي نجحت المعلمة الإنجليزية تعليمه قيم الحضارة الغربية الرأسمالية فهو المحكوم عليه بالنجاة، والمستقبل الواعد له ما ظل على ولائه وتقليده وتمسكه بالقيم التي تعلمها من معلمته البريطانية التي بدا أنها وحدها التي تحمل مفاتيح عالم التقدم التي تسعى الإمبراطورية الرأسمالية إلى تعليمها لأبناء العالم القديم. وكم كرهت الفيلم عندما أدركت رسالته المريبة التي تضع السم في العسل، كي نتجرعه نحن أبناء الشعوب ذات الحضارة القديمة فننسلخ من هوياتنا الأصلية وهكذا، أدركت أن الفن والإبداع يمكن أن يكونا وسيلة من وسائل الترويض الحضاري إذا لم ننتبه إلى ما ينطوي عليه عسلها من سمها.