المسرح فنّ عريق في جميع الثقافات. وترجع نشأته إلى طبيعة الإنسان ورغبته في محاكاة الأصوات والظواهر الطبيعية والأفعال البشرية. كما ترجع إلى استمتاع بني البشر بالحكايات والخرافات والرغبة في إعادة إخراجها في شكل حكايات ممثّلة يضطلع فيها البشر بتمثيل أدوار الشخصيات ومصائرهم وما جرى لهم. فالإنسان ميّال بطبعه إلى المحاكاة باعتبارها وسيلة تعلّم ووسيلة إمتاع واستمتاع. لاسيما أن المسرح فن يقوم فيه الممثلون ـ سواء كانوا بشرا أو عرائس أو صورا ـ بإعادة تمثيل حادثة حقيقية أو خيالية ويجسّدونها بواسطة الحوار والحركات والملابس الملائمة واستحضار الماضي في الحاضر واستشراف المستقبل أمام جمهور من المتفرجين. والمحاكاة تكون بالقول والفعل كما تكون بالموسيقى والرقص والرسم والنحت وغيرها من الفنون. لذلك تعددت أنواع المسرح وتجلياته بحسب الثقافات التي نشأ فيها. لقد ساد التصور الذي اعتبر المسرح كما حدده أرسطو في كتابه “فن الشعر” هو المسرح الوحيد الذي يراعي شروط هذا الفن وتمّت عملية إقصاء أنواع المسرح التي أنتجتها الشعوب الأخرى. لقد عرف العرب والمسلمون ألوانا عديدة من الفنون المسرحية منذ أقدم العصور. فحالما تأسست المدينة الإسلامية شرعت ألوان المسرح وفنونه في التأسس. كانت البدايات الأولى مع القصّاص الذين كانوا يجوبون المساجد والشوارع ويقصّون على الناس قصصا يقومون هم أنفسهم بتأليفها وتمثيلها بطريقة فتنت الناس واستبدت بوجدانهم. حدّث الجاحظ عن براعة القصاصين في التمثيل فقال: “إنّا نجد الحاكية... يحكي الأعمى بصور ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه لا تكاد تجد في ألف أعمى واحدا يجمع ذلك كله، فكأنه قد جمع جميع طرف حركات العميان في أعمى واحد”. بدأ هذا الفن مهمّشا واعتبر فنا شعبيا ترفّع عنه الخاصة وأدانه العديد من المثقفين. استنكره ابن قتيبة وعدّه صنيعا فاسدا مُضِلاًّ. وندّد به التوحيدي وعدّه سخفا. وحاربته السلطة. يذكر الطبري مثلا أن السلاطين أعطوا أوامر تمنع جلوس القُصّاص بالمساجد وعلى الطرق. غير أن عملية المنع والزجر لم تمنع هذا الفن المسرحي من توسيع دائرة انتشاره. وكتب التراث حافلة بالإخبار عن حكايات القُصّاص الذين ملأوا الدنيا. كتب ابن جبير واصفا القُصّاص وانتشار فنّهم، ومعبّرا عن ذهوله ممّا يجنيه بعض القُصّاص من عطايا الناس الذين يتسارعون لحضور مجالس القصّ والتمثيل وحلقاته، فيصف ما يهبه الناس للقاص الذي يبرع في تمثيل الحكاية التي يقدمها لهم: “فمنهم من يطرح الثوب النفيس، ومنهم من يخرج الشقة الغالية من الحرير فيعطيها ـ وقد أعدّها لذلك ـ ومنهم من يخلع عمامته فينبذها، ومنهم من يتجرّد عن برده فيلقي به، ومنهم من لا يتّسع حاله لذلك فيسمح بفضلة من الخام، ومنهم من يدفع القراضة من الذهب، ومنهم من يمدّ يده بالدّينار والدّينارين إلى غير ذلك. ومن النساء من تطرح خلخالها، وتخرج خاتمها فتلقيه، إلى ما يطول الوصف له من ذلك”.