يتوحدّ الجزء البشريّ في الكوكب الذي نعيش فيه، توحداً تاما وناجزا، عدا استثناءات لا تكاد تذكر في وسائل الإعلام إلا من باب الطرافة، حول مونديال كرة القدم المقام لأول مرة في القارة السوداء. وتكسر، وإن لم تُقص أخبار المونديال المتشعبّة تشعب الفرق والبلدان والأهواء والقارات التي تجمعها الوحدة الموسميّة، تكسر أخبار الحروب البشريّة التي تفرغُ الطاقاتُ في أتونها الملتهب حمولاتِها المحتدمة بالمصالح والظنون والهواجس.. لينزاح قليلاً المسرح الواقعي للصراعات، نحو مسرح رمزيّ تحتشد فيه كل أدوات اللغة والرموز والعلامات لمسرح الحرب الواقعيّة التي عرفها التاريخ في أطواره المختلفة.. يحاول البشر إفراغ طاقاتهم في المسرح الرمزي هذا، ويأخذ التصعيد سباقه المرسوم بدّقة استراتيجيّة عالية، معينها الحرب الواقعيّة وأصلها وفصلها.. وهي إذ تستعير (حرب الكرة) من تلك أصولها القتاليّة، فلكيْ تراوغ وتنأى بنفسها نحو ما هو نقيض الدم المسفوك بغزارة الأحقاد والضغائن وتضارب المصالح المحتدم حتى الانفجار العنيف لعواصف الموت التي لا تُبقي ولا تذَر.. حرب الكرة، هي قناع حرب يخفي في عمقه ومنطلقه، طموح الوحدة الإنسانيّة والسلام والوئام ونبذ التفرقة بدوافعها الكثيرة المتنوعة.. وهي دوافع تقبع في عمق الكيانات البشريّة، في وعيها ولا وعيها السحيق.. راكمها التاريخ ليصدّرها على نحو من تناحر وتدمير عبر صليل السلاح أو بدرجة أقل ربما، تلك الحرب المضَمرة في علاقات البشر وحياتهم اليوميّة وغير اليوميّة.. حروب الكرة السلميّة، التي تصل ذروتها في المونديال العالمي، يفصح لسانها عن الحب والتقارب الوجداني بين بني هذا الكوكب المضطرب. وهي وإن لم تستطع أن تصل الى إنجازات مهمة فيما أفصح عنه لسان حالها هذا، فإنها تخفّف وطأة الصراعات الدامية، وتجعل موسماً بعينه، حتى ولو على مسافة أربع سنوات، في حالة المونديال، ومناسبات كثيرة أقل أهميّة لكنها تندرج في السياق نفسه من طموح التقارب بين الشعوب والانسجام.. لكن تلك التعبئة التي كما أسلفت، تستعير أدواتها وفصاحتها القتاليّة، من مسرح الحروب الواقعيّة؛ ألا تؤسس لنوع من الأحقاد والصراعات تؤدي الى انفجار صراعات حقيقيّة كما حصل في بعض بلدان العالم الثالث حسب التسمية الدارجة؟. وهي البلدان نفسها التي يمكن لمسرح الكرة الرمزي أن يفجرَّ فيها أحقاداً وصراعات من نوع جديد بين شعوبها وأبنائها.. كما بات واضحاً أن الكرة ومؤسساتها ارتبطتْ بنفوذ رأس المال والمافيات التي تعمّق استغلالها ونهبها. والأنظمة الفاسدة تستثمر انتصارات فرقها القوية لاستمرار فسادها ودوامه... الخ. وحسب هذا المنحى لم تعدْ كرة القدم بتلك البراءة التي تُخلع عليها من قبل مؤسساتها ورموزها التي تمسك بحركتها ومصيرها.. ولا ببراءة الفرجة الخالية من العنف الحقيقي المباشر.. ولا بجمال التسلية والمتعة وحدهما، خاصة في البلدان النامية والفقيرة. لكن كل ذلك لا يمنعنا من الفرجة والتسلية وتذكر وحدة الحارس في رواية (نابكوف)، وكذلك رواية (هاندكه) حول الحارس الذي يجذب خيال الأدباء أكثر على ما يبدو... ولا يمنعنا من تذكرّ زين الدين زيدان الأكثر فرادةً في تاريخ اللعبة، وذهولاً عن مجدها التليد..