صدف انهمار المطر بشدة لا هوادة لها، نبضات سقوط حادة لحبات مائية مؤثرة أربكت خطوات المارة، تلاه ضجيج، كل تدفق نحو ما يقيه من وابل المطر، إلا هو لا يزال يدمغ وجهه على الرصيف، تلملمه زاوية وسط ركام الأطعمة وبقاياه من زجاجات ملونة، قد امتصت معاناة جسده، بعد أن تركها فارغة، يدندنها سحر المطر، وقد راقصها ضوء البرق على إيقاع الرعود، ظل نائما في ثبات عميق، يغرق في أديم المطر، لا يعي ما يدور، ولا يرى الناس يهرعون على أشدهم، فتبللت وجوه المارة، وتكدس جمعهم في محطة القطارات. الماء على زجاج المحطة يسيل بضراوة وتسيل معه الأحلام والترقب، وتتباين الأفكار ما بين خوف وتأمل، وكأنها لحظات عتقت منها حياة هادئة وجلية كانت تمضي بدقائقها المعهودة، ثم رويدا بدأت توحي بالعتمة المستبدة حول المبنى الشاهق لكنيسة “كولون”، نقوش ضوؤها خفت كما لو استبد بها الظلام، كما لو وجه السماء تدثر بالغيوم، ويصر المطر على انهماره ولم يتوقف إلا بعد ساعات من الهطول المتواصل.. لم يصح الرجل، تماما مثلما بدأ المطر، يخفق هامدا في تلك الزاوية الضيقة، كأنه في ملكوت آخر يغيب، لا يكترث لوجوده أحد، وكأنه لا يعني للمارة شيئا، ولا يبالون بما آل إليه مصيره الغامض، كانوا يسقطون عليه بعضا من المال، وحين يصحو يغادر زاويته المقيتة ويخطو نحو المحلات المجاورة، يحضر زجاجات كحولية، يملأ بها جوفه المهزوم، ويعود الخطى إلى مكانه الضيق المتحرر من مكانات شاسعة لا تمت للحياة ولا لنسقها الجوهري.. في خطواته غربة النفس تلوها غربة العيش، صمت يتوغل بعمقه إذا الضوضاء تجلجل بعيدا، فلا مجال آخر، ولا حرفة أخرى، لربما لم يجد ما يجيده من عمل أو لم يسع من أجله، لربما فضل استسلاما مريرا بعد أن تعب، فأخذت امرأة ما منه كل شيء، لم تترك له سوى زجاجة عطر.. أمام الملأ يستيقظ ليبدو علامة فارقة لتلك الركيزة المجتمعية الحرة والشاهقة في عطاءاتها الجلية والسخية. هو ليس وحده من يلجأ إلى الارتخاء النفسي لكي يرصف الزوايا المظلمة المهجورة في تلك المدينة.. “كولون”، بل تتعدد الوجوه، تستعير ملامحها من الشوارع المترامية، منهم من يستعطف الناس بكلبه الجائع، فالمفارقة الإنسانية هي إن الكلاب لديها القابلية لاستمالة القلوب الرحيمة، ومنهم من يستعطف البشر بآلة موسيقية قديمة. يتبعثر الطريد وسط مدن تزخرفها الحضارة، تشيدها بيوت مفقودة، يحملون خاصيتهم في خضم المدن التي يغلفها الغموض وتسكنها المبادئ، في طيها نسيج معاكس، مختلف يعري مجمل الحياة، يعري الحقوق كجوهرة للحياة.