بمزيد من الأسى واللوعة، وبكثير من دمع الفجيعة ننعى لكم معهد العالم العربي في باريس الذي قضى ما يربو على العشرين عاماً من عمره غير المديد في المجاهدة والنضال لتوصيل الثقافة العربية إلى أوروبا، وتجسير الهوة بين الثقافتين، والمساهمة في بناء جسور من الألفة، وقناطر من التواصل بين ثقافات الشعوب المختلفة، وسيقبر المعهد المأسوف على شبابه في إحدى ضواحي باريس التي تعج بفقراء المهاجرين، وليس في مقبرة العظماء، كشأن شواهد التاريخ.
هذا وقد شخّص المدركون والمطلعون أن سبب الوفاة المبكرة جاءت من خلل في أداء أعضاء المعهد لوظائفها بصورة جيدة ومعتادة، إضافة للأوجاع المزمنة التي دبت في جسده، ولم تتمكن خلاياه من تجديد نفسها في عملية البناء والهدم، وحتى حينما هاجمته الأمراض لم يجد شيئاً في خزانته المالية لتسديد فواتير علاجه المكلفة، وبالرغم من أنه مسجل في الضمان الصحي والاجتماعي الفرنسي، إلا أن هذا النظام عقيم وقديم، ويشكو منه حتى المواطن الفرنسي نفسه، بالإضافة إلى البيروقراطية المتكلسة، وركام من الأوراق والملفات غير الضرورية، ولكنها مطلوبة، مما جعله يمضي جل وقته في مراجعات لمؤسسات عتيقة، لا تؤمن بالحلول السريعة، وتحكمها أهواء فردية وميول سياسية، فضاع نشاطه المتبقي بين الأروقة والأمزجة الشخصية، وحتى انتمائه العربي لم يشفع له، وظل عائشاً طوال فترة مرضه وحتى احتضاره على الهبات العربية، وهي غير ثابتة، ولا مضمونة، ولا حتى مفهومة، وأحياناً كثيرة تكون مشروطة، وممهورة بوشم القبيلة، لقد حاول الأطباء الفرنسيون الطليعيون مؤخراً، وبمبادرة أملاها عليهم فكرهم التنويري، وحسهم الإنساني إجراء عمليات استئصالية، لكنها لم تكن ناجعة، فقد تغلغل الداء في الجسد الواهن، ولم يعد المعهد يقوى حتى على الأدوية المسكنة.
هذا.. وستقام مراسم الجنازة من ضفاف نهر السين لباريس القديمة، حيث سكن المعهد خلال العشرين سنة المنصرمة مروراً بمحطة “جيسيوو” التي كانت تضج يومياً بدبيب الأقدام القادمة له أو المنصرفة منه، ومن المنتظر أن يمشي في الجنازة السفراء العرب في باريس، وسفراؤهم لدى اليونسكو، وممثل عن قصر الأليزيه، وثلة جميلة من المثقفين العرب المنفيين في باريس وضواحيها، وجمع غفير من الشعب الفرنسي الذي أحب المعهد وتردد عليه، وممثلو وسائل الإعلام الفرنسية والأجنبية.
وحدها بائعة الورد ستبكيه وتبكي مجاورته، ولن تنسى أن تهديه باقة من ورد كثير وأخير، وسيذكره كثيراً ساقي الحانة الذي هرم في محله الذي يقبض خاصرة الشارع، وكان يفرح بفرحه، ولا يضجر من دخان وثرثرات زوّاره، وربما يكون حزن “بيرنار” المتشرد أحد “كلوشار” باريس والذي كان يستمتع بوحدته ودفء جدار المعهد أو ظل شجرته الكبيرة، أقول ربما يكون حزنه نهار ذاك اليوم ثقيلاً.. ويفتت الكبد!


amood8@yahoo.com