تلقيت اتصالا من إحدى طالباتي وقد بدت من صوتها الملائم لجميع المناسبات أنها سعيدة ولديها ماسيسعدني. وبعد التحية ومزيد من الاحترام قالت: “دكتورة، بعد إذنك ممكن أعطي رقم تلفونك لشخص من قطر يبحث عنك بإلحاح منذ أسبوعين وهو مطفرنيّ”. فقلت لها ضاحكة: “بالتأكيد تستطيعين ذلك... عساه ياينكم خاطب؟” فردت بمهنية تجاوزت دعابتي: “الريال يباك في شغل ضروري”. فقلت لها: “حياه الله”. فقاطعتني باستعجال: “على كل حال لديه رقمك وما اتصالي هذا إلا للوصول إليك قبله وحصولي على موافقتك فلا تكون هناك تجاوزات لخصوصيتك”. فقلت بجدية قلبت الحوار وطاقاته المتبادلة إلى موقف يكاد يكون مصيرياً: “دام إن هذا الريال من طرفكم فهو على الراس وفي العين وهذه ليست مناطق أو مدن في الدولة”. وصمتت قليلاً ثم قالت: “ما أعرف شو أقول لك بس الله يقدرنا ونرد الجميل”. فقلت لها: “مابيننا جمايل، بس خلنا نعرف الريال وشو سالفته ويصير خير إن شاء الله!!” وبعد ساعتين وثلاث دقائق وتسع عشر ثانية رن هاتفي الذي يكون خليويا أحياناً وفي أغلب الأحيان محمولاً وجاء صوت رجل ترتبت أفكار تسكنُ عقله واكتض فمه بالكلمات وتزاحمت نبرات صوته مع رغبته الجامحة لتوصيل مبتغاه إلى أذني من دون أن أفقد حماسي أو اهتمامي بما يقول. فـعَرَّف بنفسه: “أنا بروفيسير تاريخ في جامعة أوهايو وأعمل حالياً في قطر، إن سعادتي بالتواصل معك عظيمة لقد بحثت عنك كل هذه الفترة!” فقلت في خاطري: “جيب من الآخر، الزبدة أو كما يقولون في أميركا “أين اللحم؟” فأضاف: “تحاول دوله قطر إنشاء متحف يختص بالتجربة الأفريقية في الخليج العربي ولقد ورد اسمك في جميع اجتماعاتنا، نود أن نستعين بخبرتك في هذا المجال وها أنا أدعوك لحضور مؤتمر لتدارس الأفكار ومناقشة ما يمكن عرضه مع عدد من الأكاديميين والباحثين أصحاب الاختصاص لذا نحن نتواصل معك فأنت في نهاية الأمر تنتمين إلى ذات الإقليم ودراساتك تصب في صميم هذا المشروع”. أوقفت سيارتي قبالة بحر الباهية وسرحت متأملة أمواجه القصيرة وقلت لنفسي: هذه خطوة شجاعة، وما تأصيل التاريخ ودراسة ظواهره إلا دلالة على استيعاب مُتَخِذِي القرار للعوامل الإنسانية التي تجمع أبناء الوطن والبشرية وتغوص في المجتمعات فتستعرضُ خصوصياتها فلا تترك مجالاً للتخمين أو لإخفاء شيء أو تجاهله. فبمشاركتي هذه ستسافر أفكاري ليقف على رأسها عمود من أعمدة هذا المتحف، الذي سَأهِـبُهُ كل ماأوتيت من معرفة، وسأتبرع له بمجموعتي النادرة من الشعر والغناء والموسيقى، كما سأعطيه أفكاراً ربما خُلِقْــث من أجلها ودراستي التي لم تر النور بعد، فهذا المتحف سيقرب الحضارات وستستنير بنبراسه الأجيال في محاولاتها امتصاص مفاهيم الانصهار، والقوة، والهيمنة، والحب، والتسامح وأهم من هذا كله، تجارب وحياة أسلافنا التي لن تذهب هباء منثورا، فعلى نقيض ذلك ستكون تفاصيلها محوراً رئيسياً فما قدموه لدول الخليج الذي فيه ذاب ملح دموعهم وعلى سواحله دبت أقدامهم وجمعت أزقة الفريج رائحة عرقهم. ففي ذكرياتهم وذاكرتهم ما لاينسون وما علينا ألاننساه. وعندما عدت للحقيقة وجدت صوتاً يسألني: “هل ستؤكدين حضورك؟” فقلت مودعة ذلك المتصل: نعم، إلى قطر تسافر الأفكار. bilkhair@hotmail.com