في عام 1996 كانت أبوظبي على موعد مع لقاء أكبر شاعرين في عصرنا، الجواهري ونزار قباني، لا ليصدحا بصوت الشعر، واستعراض قاموسهما اللغوي، الجواهري المنحوت ونزار المنساب، ولكن من أجل تكريمهما في اليوبيل الفضي لعيد الاتحاد، مع نخبة من السياسيين والاقتصاديين ورجال الخير والإصلاح، ومن خدموا الدولة منذ وقبل قيامها، وتقرر أن يتم تكريم الجواهري ونزار لعطائهما الشعري ولمجمل حياتهما وسيرتهما الإبداعية، وكان هذا التكريم من قبل المغفور له بإذن الله الشيخ زايد، وكان عليّ السفر لهما، نزار في لندن، والجواهري في دمشق، من أجل ترتيب زيارتهما وتقديم كل ما يخص راحتهما، خاصة أنهما كانا في خريف العمر، ويشكوان أمراض الكبر وتعب السفر.
نزار تعذر، لأنه كان يعيش في حالة يصعب فيها التحرك والسفر الطويل، مع وعد إن تحسنت حالته أن يحضر، شاكراً مقدماً هذا الاهتمام والتقدير من قبل دولة يعدها نموذجاً لوحدة عربية ما زالت صامدة، ولا تتاجر بالشعارات، أما الجواهري، فحين الحديث هاتفياً معه، أسمعني بيتين ربما كانا ارتجاليين عن أبوظبي، وقال لي كعادته حينما كنت أستقبله في زياراته القديمة سواء في دبي أو الشارقة وأقله من المطار، “ولدي ناصر.. كم شاكر هذا التفضل والتكريم، ولكني أخشى ألا يمتد بي العمر لهذا الفرح”، فوعدته أن آتيه إلى دمشق، وحين زرته في بيته في الشارع الذي سمي باسمه فيما بعد، خرج لي وجلس مرتدياً “روب دي شامبر” وعليه تلك الكحفية المخاطة بحروف عربية كردية، وأكمل لي أبيات أخرى في قصيدة تتغنى بالعاصمة ويذكر فيها أفضال الشيخ زايد، وكيف جعل من هذه الصحراء حدائق غنّاء، فعرضت عليه كل ما يمكن أن يساعده على السفر، وما يعني التكريم من رجل كريم وفارس يعرف الشعر، ويقدر الرجال، ونقلت له تحيات سمو الشيخ عبد الله، وأنه أمر للجواهري، بالذات، بطائرة خاصة لنقله دون عناء، فثنى بالشكر على زايد وأولاده الكرام، ووعدته أن أزوره ثانية ما دمت في دمشق، وسرت معه حتى غرفته، وطبعت قبلة على رأسه.
عدت للجواهري بعد ثلاثة أيام لأعوده وأطمئن على صحته، ولكن هذه المرة استقبلتني ابنته وابنه غير البكر، والذي سيتوفى لاحقاً، وهو الشاب قبل وفاة الجواهري الطاعن في التسعين، وأخبراني أن صحة أبيهما تتحسن، وأنه قرر أن يأتي إلى أبوظبي، ويومها جلست معه على طرف سريره وحكى لي حكاية مما يتذكر من طفولته، وأخرى من مناكفاته في الحياة، وقال سألقي تلك القصيدة أمام زايد ولي الفخر.
بعد شهور خمسة من تلك الزيارات .. نزار لم يحضر لاشتداد المرض به، واستحالة تنقله، والجواهري اختلف الأبناء على تركته في حياته، وأبوظبي خسرت الاحتفاء وتوديع شاعرين لن يتكررا على العربية! 



amood8@yahoo.com