أسوار البحر أتعبت البحر.. هذا ما سمعته منه حين أتت ذاكرة الطفولة كسيل اجتاح الرأس والقلب والروح وكل الجسد.. البحر، صديق عشقناه منذ أن كنا ننسل إليه من البيوت القديمة بشغف لا يحده في ذلك الزمن سوى حكايات المناضلين وعشاق الحرية وخرافات الجدات، شغف بالارتماء في الماء المالح وبالركض واللعب على “السِيف”.. بأجسادنا الغضة تحت الشمس، نبني قصورا تحرضها مخيلتنا المؤسسة على حكايات الجن والبيوت الخرافية والقلاع وجنون الحب والعشق، القرب والفراق، السجن والحرية.. لم نكن نبني إلا كي نهدم ونقفز في البحر.. واليوم يملؤنا نشيد النهام وسفر السفن الكبيرة وضياع الزمن.

البيوت التي سكناها ترفض أن تتزين جدرانها بغير لوحاتنا، والزوايا مازالت تحتفظ بكلامنا، بشطحاتنا العالية في التفكير، والساحات تشتاق لخطوات أقدامنا، وإنصاتنا العميق للموسيقى التي تأتي دائما من الزمن البعيد، حيث نستحضر أرواح عوض الدوخي وأم كلثوم وعبد الحليم ومحمد زويد وجابر جاسم.. يأتي كل الجمال بإيقاعات الطبول، بالكمنجة والاكرديون، بالناي و”السكسفون”.. يأتي ري تشارلز، تأتي فيروز، تأتي الأرواح الفاتنة برحابة وتلامس النقي جدا من أحاسيسنا.
البيوت التي غادرنا، مازالت أبوابها تحفظ بصماتنا وعودنا المجنون في آخر الليل، والرحب في الضهيرة أحيانا، وبالحب حين يأتينا الورد وحين نستقبل أحباءنا.. بيوتنا التي عشقناها وهي ليست لنا، نغادرها دائما كطيور يهدم عشها وتبنى من جديد في مكان آخر.. بيوتنا تحزن عندما يأتي زمن رحيلنا منها، ونتوجس ونتعب، حيث قلق نقل الأمتعة، المطبخ، غرف النوم، صالة الاستقبال، طاولة الطعام، كتبنا، أوراقنا، الأقلام، والموسيقى.
كم غيرنا مفاتيح الأبواب ونسكن في طوابق لا تنتهي.. بيوتنا التي رحلنا منها تبكي كلما مررنا قربها.. فالأشياء الجامدة تكون حميمة كلما أحببناها.
ولا اعرف ماذا يصنع السكان الجدد بتفاصيلنا المهملة في كل زاوية من البيوت التي نسجنا أرواحنا فيها؟!
ماذا يصنعون بالليل والنهار اللذين يفتشان في كل يوم عن تفاصيلنا؟!



لما كل هذا الحنين يسكن صدرك؟
تحدق في تفاصيل الأيام
تشتهي رؤية من أحببتهم الآن
تود لو تغمض عينك
وترى القبلة المسروقة في الظهيرة
الوجه الملائكي والعينين الصافية كماء
ترى الروح
القلب وهو قربك

هل يغسل صدرك
وتفتح عينيك على رحابة شاسعة



saadjumah@hotmail.com