إلى وقت قريب، كنت أظن أن السيد “بينالتي” هو “كابتن” المنتخب الإيطالي. لكن ظني خالطه الشك، عندما وجدت أن المذكور يلعب في كل الفرق والمنتخبات المحلية والدولية، ويشارك في مباريات كل دوري على المستوى الوطني والأممي. ثم جاءني تفسير منطقي، يقول إن المنتخب الإيطالي باع لاعبه القدير.. وما كدت أطمئن لهذا التفسير حتى صدحت تساؤلات ديكارتية أخرى: هل يجوز بيع لاعب واحد إلى أكثر من فريق في الوقت نفسه؟ وهل يستطيع هذا اللاعب أن يكون جاهزاً لكل المباريات حتى ولو كان في كفاءة ولياقة السيد “بينالتي”؟ كدت أحمل شكوكي هذه إلى مدير تحريرنا الأستاذ عصام سالم، بحكم عراقته الرياضية، عندما أعفاني شاعر حداثي صديق من حرج السؤال، وأخبرني أن اللاعب الشهير قد خرج إلى المعاش.. تعود علاقتي المتوترة مع كرة القدم إلى ملاعب الطفولة. كان الأقران يجتمعون من كل مدرسة وحي، وسرعان ما ينقسمون إلى فريقين. ثم سرعان ما يتوزعون المراكز: خط الهجوم والوسط والدفاع وحراسة المرمى، ولا يبقى لي في كل مرة غير أن أكون الكرة.. وظلت الحال على هذا المنوال، طيلة دوري الحياة.. تطغى كرة القدم في مواسمها على كل نشاط إنساني. يصبح أمام كل شاشة حكّام ومدربون ولاعبو احتياط. وحدهم المثقفون يدّعون “العفّة” الكروية. يمارسون تعاليهم المعروف.. كأنهم بالتمييز بين النشاط الذهني وحركة الأقدام، يعززون تصنيفهم النخبوي. والعجيب أن هذا التصنيف غير قاصر على ثقافة بعينها. فقد كتب الروائي الإيطالي الأشهر أمبرتو إيكو مقالاً بعنوان “نص كرة القدم”، وصف فيه كرة القدم بأنها “لعبة أسياد يؤديها العبيد بالنيابة عنهم”. فلاعبو الكرة عنده هم “عبيد العصر” (!) والنشوة الجماهيرية التي تحققها الكرة هي التجلي الاستعبادي. هذا النكران لكرة القدم الذي يعلنه إيكو باسم خطاب ثقافي يؤثر العزلة، يظل أهون بكثير من ذلك الخطاب الذي يتدخل في اللعبة كأنه وصي ثقافي على الـ”فيفا”. فقد قرأت نصاً قصيراً للروائي الفرنسي جان فيليب توسان عنوانه “كآبة زيدان”، يعلق فيه على الخسارة التي تسبب فيها اللاعب الجزائري الأصل لفريقه أمام المنتخب الإيطالي في نهائيات كأس العالم الماضية، واللكمة التي سددها زيدان لخصمه. يقول توسان عن زيدان: “يشعر أنه منهك، وفي سكرة تعب وتوّتر عصبي، لم يعد في وسع زيدان إلا ارتكاب فعل العنف المخلص أو الهروب المسكن”، ويستعير الأديب الفرنسي أدوات فرويدية لسبر أغوار نفسية زيدان تحت ضغط الحاجة الشخصية والجماهيرية لـ”التسجيل”، فيقول: “لم تعد لديه (زيدان) الوسائل أو القوة أو الطاقة والإرادة لإنجاح ضربة بطولية أخيرة ـ والضربة الواسعة التي تصدى لها حارس المرمى قبل ذلك بلحظات فتحت عينيه نهائياً على عجزه التام ـ وهذا لا يطاق عند فنان. نحن نعرف الروابط الحميمية التي تجمع الفن بالكآبة، عجز عن تسجيل هدف، سجل أثراً في العقول”. تصبح كرة القدم مع “تعليق” من هذا النوع أقرب إلى الهذيان الفلسفي، الذي يعجز عن مجاراته المعلقون الرياضيون بكل اللغات، وتصبح صرخة المعلق الرياضي العربي الأشهر “الكابتن لطيف”: جووووووول... أصدق من تحليلات وتأويلات كل المثقفين الذين ما زالوا يقصّون أثر السيّد “بينالتي” رغم أنه تقاعد بحكم تقادم السن.. سنّهم وليس سنّه! * “بينالتي” هي ضربة الجزاء بالإنجليزية ويلفظها الإماراتيون وبعض العرب “بلانتي”. عادل علي adelk58@hotmail.com