نب غير أنَّهُمُ ملوكٌ مفتّحةٌ عُيُونُهُمُ نِيامُ هكذا حدّث المتنبي عن ملوك زمانه مُديناً السلطة وسدنتها. لكن علاقته بحكام عصره ستُلحق به المعرّات المشينة. سيعتبر المتنبي شاعرا مدّاحة مرتزقا. وستعدّه كتب تاريخ الأدب شاعرا متكسبا قضى العمر منتجعا بشعره من بلاط إلى بلاط. لكن الناظر في سيرته يدرك أن حكايته مع حكام زمانه قابلة لإعادة القراءة والتأويل. فهي حكاية لها فصولها وتعرجاتها. حتما كان المتنبي على يقين من أنه يمتلك على الكلمات سطوة وسلطانا. كان يدرك تمام الإدراك أن لا وجود لسلاح يفوق سلاح الكلمة مضاءً وعنفاً. فهو في أمة تمجّد الكلمة وتعتبر الكلام أكثر خطرا من الفعل. الراجح أن المتنبي كان يدرك تماما أن سلطة الملوك والحكّام وذوي النفوذ والثروة ليست سوى عَرَضٍ زائلٍ فانٍ، وأمجادهم ليست سوى غمامة صيف. يجمع العديد من مؤرخي الأدب من أمثال أبي القاسم الأصفهاني في كتابه “الواضح في مشكلات شعر المتنبي” والثعالبي في “يتيمة الدهر” والبغدادي في “خزانة الأدب” على أن المتنبي كان على وعي تام بأن ثروات الحكام وجاههم وأمجادهم، مُتوهّمةً كانت أو حقيقية، لا تعادل ذرّة واحدة مما يهبهم إيّاه ومما يطرحه قدّامهم من كنوزه لحظة تحلّ ركابه في ربوعهم أو تقترب من تخومهم. فلقد ألحّ هؤلاء المؤرخون، على أن مدائح المتنبي في الملوك والأمراء توهم في الظاهر بأنها كتبت لهم فيما هي إنما تتوجّه إلى أولي الفضل من العلماء والأدباء والمتلقّين الذين يعون شرف الكلمة ويقدّرون فضل من كابدها. وهم ينسبون إلى عالم النحو الشهير ابن جني قوله متحدثا عن المتنبي: “وقال لي يوما أتظنّ أن عنايتي بهذا الشعر مصروفة إلى مَنْ أمدحه به، ليس الأمر كذلك، لو كان لهم لكفاهم منه البيت، قلت: فلمن هي؟ قال: هي لك ولأشباهك”. كان المتنبي يدرك أن بلاطات الحكام في زمانه كانت قبلة العلماء والأدباء. لهم كان يكتب، وبهم كان يحتفي. هذا ما يحدّثنا به يوسف البديعي في كتابه “الصبح المنبي عن حيثية المتنبي” قائلا: “كان المتنبّي يعمل الشعر للناس لا للمدوح... كان عند سيف الدولة جماعة من الفضلاء والأدباء، فكان يعمل الشعر لأجلهم ولا يبالي بالممدوح.” والثابت أن المتنبي كان يعلم أنه يثأر للكلمة وللشعر من سلطة الجاه والمال. فلقد جاء على لسان ابن جني أيضا أنه قال له يوما “مالي وهؤلاء الملوك أقصد الواحد بعد الواحد وأملّكهم شيئا يبقى بقاء النّيرين ويعطونني عَرَضاً فانيا، ولي ضجرات واختيارات فيعوقونني عن مرادي، فأحتاج إلى مفارقتهم على أقبح وجه”. باطلٌ التوهّم بأن المتنبي شاعر مداحة مرتزق إذن. باطلة الصورة التي رسمت له في الأذهان. باطلةٌ أيضا تهمة الارتزاق والتكسّب. وقبض الريح سلطة حكام زمانه. قبض الريح أمجادهم. فوحدها سلطة الشعر والشاعر باقية على الدوام.