كيف كان يمكن أن نصدق ما كانت تبثه الـBBC وإذاعة صوت أميركا ومونت كارلو من أن سلاح الطيران المصري قد تم تدميره على أرض المطارات، قبل إقلاع الطائرات، وأننا خسرنا القوة الضاربة من سلاحنا الجوى، وهو أمر بقدر ما كان يصدمنا ويوقظنا بقسوة على كابوس الواقع، كنا نرفض تصديقه في نوع من الآلية الدفاعية، ونلوذ من رعبه بصوت أحمد سعيد، كبير مذيعي صوت العرب في ذلك الوقت، حيث كنا نجد، حتى في الكذب، ما يحمينا من مواجهة الحقيقة البشعة. وكنا نهرب إلى أغنية عبد الحليم، وكلمات الأبنودي إن لم تخن الذاكرة “ابنك يقول لك يا بطل هات لي انتصار، ابنك يقول لك يا بطل هات لي النهار ابنك يقول لك أنا حواليه الميت مليون العربية، ولا فيش مكان للأميركان بين الديار”. هكذا أمضينا لحظات وساعات متوترة بين قبول ما بدا أنه حقيقة ورفضه وظللنا أميل إلى الرفض، حتى في التاسع من يونيو صباحاً، بعد أن طار النوم من أعيننا، وظللنا نقلّب موجات الراديو لنسمع ما يمكن أن نصل إليه من إذاعات العالم، حتى بلغاتها الإنجليزية والفرنسية وغيرهما، فقد كان أبناء أقسام اللغات يترجمون لنا، ويتحملون شتائمنا لو كان الخبر على غير ما نريد أن نسمع. وفي العاشرة صباحاً، وصلتنا تعليمات بضرورة أن نذهب جميعاً إلى قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة وبالفعل حملنا أجسادنا المنهكة وذهبنا إلى القاعة، لعلنا نسمع خبراً ينقل الطمأنينة والأمل إلى نفوسنا التي أنهكها الشك والقنوط، ورأينا في وسط المسرح الذي يواجه القاعة تلفزيوناً ضخماً، وإلى جواره المرحوم الدكتور رفعت المحجوب الذي طالبنا بالإنصات إلى بيان بالغ الأهمية يلقيه الرئيس جمال عبد الناصر. وبدأ التلفزيون في خشخشة بداية التشغيل، وظهرت صورة عبد الناصر جالساً على مكتبه، يتوجه إلينا ببيان معناه أننا خسرنا الحرب، وأنه يعد نفسه مسؤولاً عن هذه الكارثة، ولذلك فهو يعلن إلينا استقالته، ويقترح أن يحل محله زكريا محيي الدين الذي كنا ننظر إليه بوصفه رجل الأميركان. نحن الذين كنا ننشد بالأمس “وما فيش مكان للأميركان بين الديار”. وحاول رفعت المحجوب أن يخفف وقع الكارثة على نفسه، مستخدماً العبارة السخيفة لقد مررنا بنكسة لا هزيمة، وهنا، انهمرت عليه من جنبات القاعة الضخمة الأحذية التي كنا نرتديها، صارخين على نحو عفوي، من قادنا إلى الهزيمة يقودنا إلى النصر، وخرجنا من القاعة صارخين، هاتفين ببقاء عبد الناصر ليس حباً فيه، وإنما بمنطق رأيناه واقتنعنا به، أنه بقدر مسؤوليته عن الهزيمة لابد أن يكون مسؤولاً عن النصر. وانتقلت الصرخات من حناجرنا إلى حناجر الآلاف المؤلفة التي طافت شوارع القاهرة، وحاصرت المنافذ إلى بيت عبد الناصر، ومجلس الشعب الذي لم يكن أمامه إلا الاستجابة إلى رغبات الجماهير، وذهب وفد من المجلس إلى جمال عبد الناصر الذي عدل عن الاستقالة، لكنه لم يكن يعرف أن مكانته في قلوبنا قد ارتبكت، وأن حبنا الصافي الخالص المطلق له ذهب ولم يعد.