في كل صباح يبدو حينا ككل أحياء المدينة هادئاً وصامتاً كأن لا أحد يسكن المكان، أمر غريب حيث لا يبدو لتفاصيل الحياة العادية أثر ما هنا، الحياة في عاديتها المطلقة، في بساطتها المتناهية، في وجوه الرجال والنساء، في صخب الصغار ولعبهم، في مشاكساتهم وجريهم في الأزقة، في الرجال الذاهبين إلى المسجد ولزيارة بعضهم، في تحية تلقى هنا وصوت يرتفع بصباح الخير هناك، في نساء يتجمعن أمام إحدى البوابات، في شباب يلعبون كرة القدم في مساحة ترابية وسط الحي بعد أن وضعوا قوائم للمرمى على جانبي المساحة.. وتفاصيل كثيرة جداً ما عاد لها وجود.. شيء ما دهس عليها، أحد ما اغتالها، وربما نحن من جعلها تتسرب من بين أيدينا في غفلة منا، بينما كنا ملتهين ببناء قلاع سيسكنها الصمت لاحقاً !! وحده نهار الجمعة يهل على كثير من البيوت كاسراً صمت الأسبوع وباعثاً البهجة والفرح، إنه يوم عائلة لابد منه، وهو تقليد جميل حتى الآن نتمنى ألا يذهب كما ذهبت تفاصيل كثيرة من بين أيدينا ولم يعد بالإمكان استعادتها، فتغير بذهابها وجه المدينة وشكل المكان وروح الناس، هذا التحول الكبير لا نجده في المدن البسيطة الأخرى، حيث الإنسان متصل بكل ما حوله طيلة النهار، ولذلك فهو قليل الاكتئاب حتى وإن بدا شديد التذمر، ذلك أن الاكتئاب مرض بينما التذمر ليس سوى طارئ يمضي سريعاً. صباح أمس كان الحي يغط في صمته المعتاد، لا شيء جديداً، مئذنة المسجد المجاور تشمخ بمهابة وجلال، السماء رمادية وخالية من أي غيوم، يبدو أن الصيف قد أطل باكراً هذه السنة هكذا بدا لي الأمر بمجرد أن شممت رائحة الحديقة، بهرني كثيراً بهاء الحديقة، وجدتها كغابة استوائية صغيرة لاحظت فيها لأول مرة أنواعاً مختلفة من النباتات الجميلة والغريبة، بينما العصافير تتخذ من الأشجار الكثيفة أعشاشاً تملؤها بالبيض وبالصغار، استغرقني التأمل فعدلت عن فكرة كتابة مقال متجهم كهذه المقالات الثقيلة التي نكتبها طيلة الأسبوع، قلت لنفسي سأكتفي اليوم بكتابة هذه التفاصيل الصغيرة المتاحة بين يدي وأنا أرقبها عبر مكاني الظليل تحت شجرة اللوز الضخمة التي زرعتها أمي هنا قبل أن ننتقل إلى هذا المنزل منذ سنوات. أردت أن أكتب بعض التفاصيل الخاصة لكنني تنبهت إلى أننا مجتمع لا يتقبل الواقعية والسير الذاتية، حين يتعلق الأمر بحياتنا الخاصة وبأسرار البيوت، فعدلت عن الفكرة، وتذكرت إيزابيل الليندي الروائية التشيلية الأشهر في العالم، والتي كتبت في مذكراتها أنها حين نشرت روايتها الأولى تضايق منها عدد من أفراد أسرة والدتها لأنهم اعتبروها خانت الأسرار حين كتبت أسرار العائلة واتخذت من أفرادها أبطالاً للرواية، فـالثياب القذرة تغسل داخل البيت، كما هو شعار السكان في تشيلي، وإيزابيل الليندي تشيلية وعائلتها بكاملها مقيمة هناك، لكنها تقول: لم أتصور قط أن بعض الأشخاص في عائلتي سيأخذون تلك الأمور في الرواية بحذافيرها مع أنني جعلتها مبالغاً فيها وتحايلت على الواقع كثيراً، لقد امتنع أولئك الأقارب عن التحدث معي، أو صاروا يتجنبونني طوال سنوات، وحين تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي فكرت في أن الفيلم سيكون أشبه بذر الملح على الجرح لكن ما حدث هو العكس. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com