الحب ليس رواية شرقية بختامها يتزوج الأبطال بل هو الإبحار دون سفينة وشعورنا أن الوصول محال هكذا كتب نزار قباني معترضا على التصور الذي يقرن الحبّ بالزواج، وليس في كلام نزار ما يدلّ ولو إيماء على أنه يعتبر الزواج مهلكة للحبّ، بل الثابت أنه ينطلق من تصوّر عربي حفلت به المتون القديمة. فكتاب “مصارع العشّاق” مثلا وكتاب “طوق الحمامة” و”ألف ليلة و ليلة” وكتب السير وكتب التصوّف والأخبار ترسم للحبّ صورة مأهولة بالضنى والوجع والحرقة واللوعة. والحبّ في هذه المؤلفات جميعها كثيرا ما يقترن بالجنون ويمضي بحامله قُدُمًا الى حتفه. وبذلك ينفتح مفهوم الحبّ نفسه على أبعاد رمزيّة ويلتحف بتلاوين الرمز وكثافة الرمز. إنه تعبير رمزي عن قدر الكائن في مواجهة رعب الوجود لأنه تجربة تضع الكائن في محاذاة الموت وبإزاء العدم. وهو لا يصرع الإنس والجان فحسب، بل يطبق على الغرس والزرع والحيوان. نقرأ في مصارع العشاق، مثلا، خبر النخلة العاشقة التي ذهب ماؤها وجفّ نسغها أو كاد وبملاقاة صنوها تعود الى الحياة، وخبر البطّة المتيّمة التي حين يذبح قرينها ترتمي في دمه وتظلّ تضطرب حتّى تلقى حتفها. الراجح أيضا أن نزار قباني كان يردّ بكلامه ذاك على تصوّر كرّسته السينما العربية، وعليه جريان أغلب المسلسلات التلفزيونة. فالأفلام والمسلسلات التي تناولت موضوع الحبّ كثيرا ما تتعمّد تصوير الهجر والضنى وألم البعاد بين المتحابين وتتفنّن في وصف عذابهما وتقلّب عواطفهما تقليب الحطب على نار لا تطفأ ثم يأتي الفرَجُ وتزفّ البطلة إلى البطل وتنتهي الحكاية نهاية سعيدة ترضي المتلقي المفترض الذي يتوجّه إليه المخرج والكاتب. لكن أطرف ما وقع في هذا الباب تدخّل المترجمين في نصوص تنتهي نهاية فاجعة وتحويلها إلى نصوص تنتهي نهاية سعيدة. هذا ما تم فعله في نهاية القرن التاسع عشر حين ترجمت رائعة شكسبير روميو وجولييت. معروف في الأرض قاطبة أن هذه المسرحية تنتهي نهاية فاجعة تفتح فكرة الحب ذاتها على أبعاد درامية وتجعل منه تجسيدا حقيقيا لبهاء الحياة من جهة، ورعب الوجود من جهة أخرى. ولولا تلك النهاية الفاجعة لما اشتهرت المسرحية. لكن المترجم العربي قلب هذا التصوّر رأسا على عقب وختم النص الشكسبيري بمشهد زفّةٍ. فتزفّ جولييت على وقع الدفوف والأغاني لحبيبها روميو حتى يعود المتفرج العربي إلى بيته فرحا مسروراً. لم يتفطّن المترجم إلى أن صنيعه هذا قد يبهج متلقيه المفترض لكنه يملأ بالأسى قلب شكسبير نفسه. والثابت أيضا أنه صنيع كان سيملأ بالغضب قلب أرسطو لأن الخاتمة السعيدة هذه تعصف بكلّ قوانين المأساة كما حدّدها أرسطو ومن بينها التحوّل والتعرّف وإثارة انفعالي الرحمة والخوف في ذات المتفرّج وتمحو قانون التطهير (الكاثرسيس) الذي عدّه أرسطو غاية المأساة باعتبارها فنّا نبيلا.