نظرت إلى التاريخ المكتوب على جرائد الصباح، فوجدته الخامس من يونيو 2010، واكتشفت أن ثلاثة وأربعين عاماً مرت على كارثة العام السابع والستين الذي قلب الموازين، واستبدل بأحلامنا كوابيس لا نزال نعيش فيها ونعاني منها. وكنت في مثل هذا اليوم، منذ أكثر من أربعين سنة، في الثالثة والعشرين عاماً، معيداً شاباً، مليئاً بالحيوية والعافية، منطوياً على الكثير من الآمال في غد مشرق وانتصار قومى، يكتب بالإبر على آماق البصر وكنت أسهم في الإشراف على امتحانات آخر العام، وفي حوالي الحادية عشرة صباحاً، بعد أن انتظمت الامتحانات التي كانت بدأت في التاسعة صباحاً، قيل لنا اصرفوا الطلاب، فقد قامت الحرب، ولا تفارقوا الكلية، فسوف تتشكل على الفور فرق دفاع في كل كلية من المعيدين والدكاترة الشبان، فصرفنا الطلاب الذين خرجوا محدثين ضجيجاً غير معتاد، فقد كانوا واثقين من النصر الذي بدا كأنه قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وبعد وقت قليل فرغت كلية الآداب بجامعة القاهرة إلا منا نحن المعيدين والمدرسين الشباب، وتجمعنا في قاعة مجلس الكلية الذي أصبح مقر غرفة عمليات الدفاع المدني، ونسى أكثرنا، في حماسة الإيمان بالنصر القريب، أن يذهب إلى منزله لإحضار منامات يرتديها مساء، وظللنا على ما نحن عليه، يكتفي كل منا بالقميص نصف الكم والبنطال الخفيف الذي جاء به، فقد كانت حرارة الصيف قد بدأت، وغلب قيظ يونيو، ولم نفارق قاعة مجلس الكلية إلا في مجموعات، تذهب للمرور على قاعات المحاضرات والامتحانات التي أصبحت خاوية على عروشها، كي نحمي الكلية ومبناها وقاعاتها من أي محاولة اعتداء غادر والمضحك أنه لم يكن أحد منا معه سلاح من أي نوع، ولا حتى سكاكين أو خناجر بسيطة، ومضى اليوم الأول، واجتمعنا في قاعة الكلية طوال الليل، لا نفعل شيئاً سوى أن نسمع “صوت العرب” ونشرات الأخبار الرسمية. وكان صوت أحمد سعيد الهادر يبشرنا بين الحين والحين بقرب النصر، وإلقاء إسرائيل في مياه البحر كأنها سلة نفايات ولكن المتشككين من الأكبر سنا، لم يكونوا يكتفون بما يسمعون من البيانات المصرية التي كانت تعلن كل حين عن تساقط عشرات الطائرات الإسرائيلية وكان السذج من أمثالي يحصون أعداد الطائرات الساقطة كالفراشات، فكنا نهتف في حبور هيه، وصلنا إلى الرقم مائتين، مائتين وخمسين، كأننا في مزاد، وفى الصباح من اليوم التالي، بعد ليلة بلا نوم، سأل زميلنا المرحوم إبراهيم شتا، معيد اللغة الفارسية في ذلك الوقت، قائلاً ولكن يا إخوان ما عدد الطائرات التي تمتلكها إسرائيل؟ وكيف يسقط كل هذا العدد من الطائرات، ولا تستسلم تماماً؟ ولم نملك إلا أن نزجره في ذروة حماسنا ووقوعنا في فخ الدعاية الزائفة التي لم نكتشف الخديعة التي أوقعتنا فيها إلا بعد يوم، أي في الثامن من يونيو، فقد طلب أحد زملائنا الكبار من منزله راديو أكثر حداثة من الأنواع التي معنا، وأخذنا في مساء اليوم الثامن نكتشف حجم الكارثة التي لم نرد تصديقها إلى اللحظة الأخيرة.. وللحديث بقية..