الصورة تشبع الحياة أملاً، تمنح الذاكرة طراوة وملاذاً غريبين لذيذين شفافين، حتى وإن اندثرت فيك الملامح إلا أنها تكتسب طاقتها من جديد حال رؤيتها بين يديك الآن، وكأننا نقول إن للحياة رونقها وسحرها الذي لا يقاوم. الصورة تغلف الذاكرة المتعبة، حيث تسأل النفس بحثاً عما انطفأ من الأمكنة الطفولية، إذ ما زالت البطاقة التي أحملها ما بين ثنايا القلب: تحمل رقم 107، وصورة بالأبيض والأسود، لشعر طويل وهو يلخص ملامح الشباب آنذاك. صنعت هذه/ تلك البطاقة لاستعارة الكتب من المكتبة العامة، المطلة على شارع الشيخ زايد الأول بالخالدية في أبوظبي. لم يتلاش من الذاكرة (دوار) الكمال، ولا بائع الفلافل على ناصية زاوية ضيقة، حيث أصبح فيما بعد من المطاعم التي لا تضاهى. كان الهدوء يحتل سائر الخالدية، لم يكن كمساءاتها الآن حيث يأتيك الضجيج والزحام فيحيط بجسدك من كل مكان. هي بحق من المكتبات التي كانت تلامس شغاف القلب محبة، تمنحك نكهة القراءة منذ اليوم الأول حين تطأها قدماك المرتجفتان بالخوف من المجهول في هذا الحشد الهائل من الكتب التي تراها أمامك، وتبدأ رحلة البحث وكتابة ما هو مطلوب منك أكاديمياً وآخر مدرسياً. كانت تزخر بأمهات الكتب، ولم تكن لتبتعد عن نسق الحياة اليومية، لربما خطوات الطريق الضائعة وغير المحددة بين أقدام الطفولة الخجلى تقرب المرء منها، تدلك إليها أو تجرك الخطوات من المكتبة إلى البحر، عبر حدائق أبوظبي الممتدة كنسيج من الاخضرار. كان البحر بلونه الأزرق الداكن يثير همسات وراء البيوت والأبنية الحديثة، وحين يتصاعد موجه لا شيء يلجمه حتى أنه يحاول الاقتراب من تلك الهمسات ليسمعها معي، إنه الفضولي والذي لم يكن ودوداً مع اليابسة، حيث ينسف كل ما يصادفه وكأنه يبحث عما يحرره من الشواطئ!. بدأت السنوات تحيل البحر إلى محراب للسكون، وبدأ يتحول في نظرته إلى شخصية لطيفة تحاول أن تخرج من أعماقها سراً، وبعد عناء آلف البحر الحياة من دون غضب، فأصبح يوحي إليك بالاستمتاع بالقراءة وكأنه بدأ يدخل المكتبة معي، ويقرأ معي رواية وأنا أجلس على شاطئه الهادئ، وربما يناغمني بحوار مع طالع النسمات الجميلة، وهي تتلاعب بخصلات نخلتين فضيتين، بينما بدت هناك على البعد قلعة صممت على شكل نافورة. تلك هي قصة المكتبة والبحر فللمكتبات العامة خاصية جميلة تجسد منظومة الثقافة، يتلقفها القادم والمقيم ولابد أن ينبش عبر كتبها ومكتباتها العامة ما يريد أن يراه، وحينها لا بد أن ينظر إلى كورنيش أبوظبي وما جرى عليه حتى صيغ كالقلادة اليوم، وهو الذي يريد أن يقول: ليس الاسترخاء الجميل بعيداً عن الثقافة أو المكتبة، فما ينقص الروافد الثقافية المختلفة هي المكتبات العامة وسحرها الذي يخلق جمالية لها بريقها عند رواده! لذا لا يمكن أن نغفل ثوابتنا التاريخية والحياتية في مدينتنا الجميلة/ أبوظبي التي منحتنا القراءة لاكتشاف العالم.