أتذكر قبل 8 سنوات حضرت ندوة كبيرة التقى طوال أيامها الثلاثة أكثر من أربعين باحثاً ودارساً ومثقفاً عربياً ومستشرقاً في تونس حول مفهوم التضامن والتكافل في الحضارة العربية والإسلامية، وتجلياته في الأدب والثقافة، وتأثيره في الناس وفي قيمهم وأخلاقهم وما قد يورّثونه لأجيالهم القادمة.
إن مفهوم التضامن والتكافل يشمل في معناه: المعنى الصغير الفردي حين تقف جنب جارك تعزيه بوفاة فقيد أو حين ترعى يتيماً أو عندما تحسن لفقير أو تشارك ناسك فرحهم، والمعنى الكبير الجمعي الذي يشكل قيم الثقافة، وأطر الحضارة في تجلياتها في الدفاع عن قيمها ومثلها السامية، وعن حرية إنسانها، وكرامة شعوبها، والوقوف ضد الحروب والشرور والخراب الإنساني الذي قد يهدد بقاء البشرية وحضارتها.
لقد نشأت قيم التضامن والتكافل في التراث الثقافي العربي والإسلامي في حضارة العرب قبل الإسلام على أسس عصبية قبلية وعشائرية ومصلحية، وحينما ظهر الإسلام ارتقى بهذه القيم، وجعلها غاية كبرى لدعوة النور والتوحيد والأخلاق في إطارها الكوني والإنساني، ومع تمدد الحضارة العربية والإسلامية في الجهات الأربع، تجلى هذا التضامن مع الشعوب الأخرى في محاولة تخليصها من الظلم ومن الجهل والاستعباد ومن الوثنية المطلقة، إما في الشرك في عبادة الله أو عبادة الفرد، لكن مع بداية الانهيار لهذه الحضارة الإنسانية، وثورتها العلمية والفكرية، ارتد هذا التكافل للدّاخل لحماية النفس والثقافة، وانتكس التضامن بالمحافظة على المنجزات والمكتسبات التي حققتها الشعوب العربية والإسلامية في دائرتها الجغرافية الصغيرة، بعدما تخلت عن دائرتها الإنسانية الكبرى.
أما التضامن والتكافل في الثقافة العربية الحديثة، فبدأ من الدّور الذي لعبه العلماء والمفكرون ودعاة التنوير في حض الأمة العربية والإسلامية على مواجهة ضعفها، ومحاربة المستعمر، وقيام الثورات والحركات الوطنية والحصول على الاستقلال وتقرير المصير، وانتهاءً بإمكانية إنشاء مشروع عربي مستقبلي للثقافة العربية بمفهومها المتكامل الحضاري، سياسياً وفكرياً واقتصادياً، يمتد من المحيط إلى المحيط، وحماية هوية هذه الثقافة في عالم يفرض الثقافة الموحدة والواحدة، والاقتصاد الحر البعيد عن منظومة الأخلاق المهنية، ووفق ما تسنّه التجارة الدولية لشركات متعددة الجنسيات، ورفعها شعار البقاء للأقوى لا للأصلح، ونظرية تذويب الشعوب المختلفة ثقافياً وإثنياً وإيدلوجياً فيما يعرف بالمواطن «E.Citizen»، والتي تقلق مسيرة إنسان العصر الحديث الجامحة نحو تحطيم كل شيء، وخرق المحاذير الأخلاقية، والقيم المثالية التي صاغها الجد الأول وتعمقت خلال مسيرة طويلة من حضارة الإنسان، كان ثمن بعضها الحرب والدم. هي دعوة للتضامن مع النفس أولاً، والتكافل مع حراس الفضيلة، والقيم الحضارية الإنسانية العالية، هي دعوة للعرب والمسلمين أن يلتزموا بقضية التكافل والتضامن مع إخوانهم المدنيين العزل في ليبيا.. ولن أزيد!


amood8@yahoo.com