الكتابة القصصية لا تخل من تعقب الحدث، وترصّد أبطالها أينما تحركوا، وفي ذهن الكاتب دائما شخصية أو شخصيات تقود السياق. وذات يوم كنت أترصد أحد أبطالي المحتملين ممن رأيت فيهم ملامح بطل قصصي، فكان يتعب ترصدي ويربك أفكاري من شدة حراكه، وهو متوغل في نفسه، لا يحاور إلا ذاته، سريع الحضور والانصراف، فلا تطأ قدماه المكان إلا ويذهب الى دورة المياه، ثم تبصره وهو يخرج سريعا إلى المطبخ، يضع القهوة على النار، ينتظر قليلا ثم يخرج وبيده فنجانا من القهوة، يضعه على الطاولة، ثم يخطو نحو إحدى الغرف، يتوقف عند المكتبة أو يطل من الشباك، ثم يعود ليرتشف القهوة سريعا، يذهب مرة أخرى إلى المطبخ، أتوقعه يرتشف قليلا من الماء، لكن الأمر يطول ويطول، ليخرج مرة أخرى ويذهب إلى دورة الماء لتمتد خطواته إلى خارج المبنى. امتدت المراقبة أياما وأشهرا، وهو على المنوال إياه، وكأنه يعطي لكل زاوية حصة من الوقت فأسميه في القصة الرجل الفأر. وشخص آخر كان يجلس وكأن خلفه لوحة من تذكار، يتخلله الوقت وسط شعور مغيب الأمنيات، تشنقه الأيام ببطء، يذكرني بصرصار هرم كنت أرقبه وهو يجلس مدة طويلة خلف أحد الأبواب، كان ساكنا إلا عيناه تستفزان الحياة، لوحة موسومة بالاستسلام.. إلا أن البطل تميز بأنه لا يستسلم مهما أتاه النسيان، وهو على ضفاف آخر السنوات وكأن فجوات وصخور أتت على وجه مثلما يأتي الغروب على آخره. حكاية يومية تشغله، كرسيه مطلي بالهفوات، مكتبه علا الغبار سطحه، لا يعرف تبدل الألوان، صرصار لا ينام، يداعب جدائل الزمان، فمن مثله هوى به الزمان إلى غياهب الاندثار، فمن شارد الكهولة إلى أحلام وأوهام، إلى مدار الكوابيس، يشتعل شعره بالبياض، ويقف تصابيا وسط غوغاء الأيام، مثل نسر كسير تربكه وجوه المارة وتربكه المسافات، يطلي وجهه بالكهولة وتحزنه الحياة التي بلا ملاذ. ثمة شخوص قصصية تتوهج بها الحياة، يحيطها الأمد الفكري ويحتضنها التحول الثقافي، تنبت وسط مجتمعاتها فارغة العلامة، منها اندثرت سيرتها ومنها لازالت عالقة بالأذهان، تستدعيها الذاكرة متى شأت، ولكن السؤال يطرح حين لا يكتب عن أكثرها، فلا تجد جوابا يحد من قراءة تلك الشخصيات الحاضرة بالمجتمعات. ففي مجتمع الإمارات، مثلا، هناك عدد وافر من الشخصيات التي لم تكن مصابة بالجنون بقدر ما هي تستشف القادم وتؤصّله في حياتها الحاضرة، ظاهرة كانت تحمل طياتها المجتمعات الصغيرة والأزقة، إلا أنها لم تعد تثب مثلما كانت، أخذتها دواعي النسيان حين فصلت من مجتمعاتها وكونت لها مجتمعات أخرى، مجتمعات صغيرة وضيقة لا تستند على دراية أو أفق، فالعقل دائما ما ينشد حريته، فحين لا يجدها يزداد ترديا وغبنا. من هذا المفهوم الشامل والكبير نستشف كم للقصة من أهمية، ولا نعرف كيف نستيقظ هؤلاء الذين يصنعونها من ثبات مجتمعات بدأت تتجمد.