كتبت مقالتين سابقتين عن منطقة رأس الخيمة القديمة تحت عنوان «رأس الخيمة القديمة .. ذاكرة مكان»، وكانتا بمثابة مقدمة تناولت فيها تضاريس المنطقة والفرجان الستة التي ضمتها هذه المدينة العريقة وكذلك أهم الأحداث التي مرت عليها. لكن ثمة تفاصيل أخرى أكثر دقة لم يأت ذكرها رسمت في رأي الشخصي ورأي الكثيرين ممن عاشوا في هذه المنطقة ملامح وذاكرة جميلة في عقول وأرواح أبناء المنطقة، ولهذا نصحني الكاتب والشاعر الصديق أحمد سالمين بمواصلة الكتابة عن هذه المنطقة التي ننتمي إليها نحن الاثنان باعتبارها مدينة انطلق منها كل ما هو مادي ملموس باق حتى الآن أو روحي محسوس بالروح، تحتفظ بها الأجيال في وجدانها وذلك منذ أن قطنها الأهالي في السابق. والغوص في تفاصيل منطقة صغيرة لا تزيد مساحتها عن ستة كيلومترات مربعة، فيه نوع من الظلم لمنطقة تشم فيها التاريخ وأنت تتجول بين فرجانها وطرقاتها الداخلية، ذلك أن سرد الأحداث لن يوف المنطقة حقها إذا أغفلنا الجانب الإنساني الذي كان يتمتع به أهالي هذه المنطقة كسائر المناطق والمدن الأخرى في الإمارات، فالمنطقة التي عاش فيها أغلب أبناء رأس الخيمة تشعرك منازلها باستواء سطحها الدائم مما يعني استطاعة الأولاد الصغار العبور إلى سابع أو ربما ثامن وعاشر بيت من فوق سطح المنازل. كان الخير والعطاء محور كل شيء في المدينة فالرحمة شملت الصغير قبل الكبير، الشجر وكذلك الحيوانات والطيور سواء المحلية أو المهاجرة، كانت النساء مثلا يضعن ما تبقى من الرز والخبز وتبللنه بالماء وتضعنه فوق سطح المنزل لعل وعسى طير يكون جائعا فيمر فيأكل ويشرب، من رحمة الأهالي أن أبواب المنازل ومجالسها دائما ما تكون مفتوحة لعابري السبيل أو للفقراء الذين تحسبهم أغنياء من التعفف، كان التكافل الاجتماعي ومفهومه الديني متقدا، فالكل يعمل لصالح الفرد، والفرد يعمل لصالح الجماعة، كانت مياه الشرب متوفرة في الطرقات وأمام أبواب المنازل، فلعابري الطريق حق في المأكل والمشرب. من الذاكرة الجميلة التي يحتفظ بها أبناء مدينة رأس الخيمة القديمة المقيظ أو «حوال القيظ»، الذهاب إلى منطقة النخيل والخضرة والمزارع الوارفة بظلال الأشجار والمياه العذبة، كانت المدينة تحتفل بهذه الأيام كموسم يجد فيه الصغار والكبار فسحة للتمتع بقطف «الرطب» الذي يتمتع بحلاوة لا مثيل لها بسبب عذوبة المياه، كذلك يجد الرجال فرصة سانحة لمراعاة أشجار نخيلهم والاهتمام بها وبناء أماكن تجفيف الرطب (المسطاح) تمهيدا لتحويلة إلى « تمر» ومن ثم تخزينه للشتاء. فرحة الصغار كانت كبيرة للانتقال إلى المزارع أو منطقة النخيل التي تضم مناطق القصيدات، الجويس، والعريبي، والحديبه، والغب، حيث التجهيزات تكون مبكرة فالعائلة تنتقل بالكامل هي وأدواتها وحيواناتها من ماعز وأبقار إلى منطقة النخيل وهي هجرة مصغرة محدودة إن جاز التعبير. إن مدينة رأس الخيمة القديمة برغم مساحتها الصغيرة إلا أنها اختزلت بين فرجانها وعلى طرقاتها الداخلية حياة رجال ونساء كان الخير والعطاء المحور الأساسي المحرك لهذه الحياة فاستحقت أن تكون مدينة الذكريات الجميلة.