لكل زمن ثقافته، والمراحل تتسابق في تكوين الأشياء بألوانها، ولكن، مهما يكن من أمر التغيير، فإن الثقافة لا تخضع البتة لقانون النفي ونفي النفي، بل إن الثقافة تراكمية، وتتخذ جذورها على أثر المضاعفات، مع الارتكاز على الأصل في الثقافة.
اليوم ونحن نشهد هذه القفزات في المفاهيم والقيم الاجتماعية، نرى أن كثيراً من الأسماء لأشياء متعددة قد غابت، وبعضها يتلاشى رويداً إلى أن يزول من ذاكرة الناس وخاصة الأطفال، أسماء كثير من المأكولات، وأسماء كثير من الملابس، وأسماء كثير من الألعاب، وأسماء كثير من الأدوات المنزلية، وكذلك الأشياء الاستهلاكية.
أطفالنا يندهشون ويرفعون حواجبهم مستغربين عندما يتم ذكر “السنبوك”، وهي إحدى المراكب التجارية، لأيام زمان، وكذلك “الكرب”، وهو ما يقتطع من جذع النخيل، حين التشذيب والتهذيب، و”العريش” على الرغم من أنها جاءت في القرآن، إلا أن أطفالنا لا يعرفون أن آباءنا كانوا يعرشون صيفاً ويخيمون شتاء.
ما يحصل في المجتمعات الإنسانية اليوم، وبالأخص المجتمعات الخليجية، هو عملية حرق المراحل، والقفز عالياً جداً عن الواقع والتاريخ، ما يجعل الثقافة تعيش في غربة، وتخيم في غرفة مغلقة، بلا منطلقات هوائية، وذلك بفعل الذاكرة التي ثقبت وتهرأت وأصبحت غير قادرة على حفظ ما جرى بالأمس، وما تم فعله، وثقافة الناس وبالأخص الأطفال، تطوله جداً، بل وتعيش في سباق مرير للحاق بركب قطار سريع وسريع جداً، أحياناً تصاب الذاكرة بالوهن والعجز ما يسبب عقد النقص وأمراض الاكتئاب والوسواس القهري، والذي بدوره يقود إلى أمراض “سايكسوماتية” بغيضة.
التطور مطلوب وأمر جوهري في حياة الإنسان، ولكن الذي لا نتمناه هو الاستلاب، وعيش الأطفال في حالة الغربة عن الواقع، ما يجعل الإنسان يعيش الألم النفسي، هو هذا الانفصال بين مرحلتين أو أكثر، وهو هذا الانتزاع الإجباري من أصول إلى فصول أخرى، دون التدرج ودون التمهيد ومن ثم الربط بي حبات المسبحة، إن اعتبرنا حياة الأجيال هي المسبحة.
ما يعيشه الطفل اليوم هو الانفجار الكوني بحق، وهو الحريق الداخلي، والزلزلة التي أحدثت حالة الانفصام، وجرت من ويلات على النفس والعقد ما جرت، فطار التحليق عالياً وبعيداً عن أرض الواقع مسألة تؤرق الإنسان، وتجعله في حالة بينية، أي بين الإقدام والإحجام، وما بينهما أمر أمرّ من الصبر، وخبر لا يأتي بإجابة تشفي غليل العقل الذي يريد أن يستفهم ويستعلم، ويتكلم بلغة الواقع مغموساً في عجين التطور، نحتاج إلى التطور كما أننا نحتاج إلى ذاكرة حية.


marafea@emi.ae