قمت أنا وصلاح فضل بتكليف أساتذتنا وزملائنا بالمشاركة في العدد الأول من مجلة فصول، وقد اخترنا له موضوع التراث، بعد أن اتفقنا على أن يدور كل عدد حول موضوع أو قضية. وكان اختيارنا لموضوع التراث مبررا، صادرا من إيماننا بضرورة البدء من التراث ومراجعته، ومن ثم وضعه موضع المساءلة، قبل أن ندخل في قضايا النقد الجديد ومناهجه، ونجحنا في استكتاب زكى نجيب محمود وشوقي ضيف وعبد القادر القط، إلى جانب فؤاد زكريا وعدد كبير من الأساتذة والزملاء. وعندما انتهينا من جمع المقالات فوجئنا بأن عدد الأبحاث أكبر من عدد الصفحات المعتاد الذي توقعه صلاح عبد الصبور، وأخبره عز الدين إسماعيل بأن المجلة ستجاوز أربعمائة صفحة، فرفض لأن الميزانية المخصصة للمجلة لا يمكن أن تغطى هذا الحجم والأفضل تأجيل نشر عدد من المقالات، واقتنع عز الدين إسماعيل بما قاله صديقه الحميم لكنني لم أستطع قبول هذا الحل، فقد بذلت جهدا كبيرا في جمع المقالات مع صلاح فضل، وصعب علي أن يضيع جهدنا، فضلا عن ما يمكن أن نقوله للذين كتبوا دراساتهم لكى تنشر في العدد الأول. خرجت من مبنى هيئة الكتاب محبطا، وكان اليوم يوافق آخر الأسبوع، أي يوم الخميس، وعدت إلى منزلي، وظللت متحيرا، غاضبا، منفعلا، ولم أهدأ إلا بعد أن قابلت المشرف الفني سعيد المسيري، وسألته عن حجم الصفحة المعتاد، وعرفت منه أن جزءا منه يضيع في المطبعة أثناء طباعة “فرخ” الورق، فسألته وماذا يحدث إذا لم تقص المطبعة هذا الجزء؟ فأخبرني أن الحجم الجديد سيكون كبيرا، ولكنه سيقلل من عدد الصفحات بالتأكيد. هرعت إلى منزل صلاح فضل الذي يعرف اندفاعي الذي يضيق به أحيانا، وأخبرته بالحل المقترح، وهو زيادة حجم صفحات المجلة طولا وعرضا، وحاولت إقناعه بأن هذا الحجم للمجلة سيكون جديدا ومميزا لها عن غيرها، ويبدو أن حماسي أصاب صلاح بالعدوى، أو على الأقل جعله يبدو مقتنعا، فاتفقت معه على أن نذهب معا إلى منزل صلاح عبد الصبور في اليوم التالي. فوجئ بنا صلاح عبد الصبور لكنه كان يعرف حماستي التي كان يقابل حدتها بسماحته التي لن أنساها ما حييت، وقلت له: اسمع لقد قررت أنا وصلاح فضل أن نتخلى عن أجرنا مقابل أن ننشر البحوث التي تلقيناها كاملة، وضحك قائلا: وهل تعرف أن مكافأتكما في عامين أو ثلاثة لا تكفى لتغطية العجز الناتج في أثمان الورق، فأخبرته بما اتفقنا عليه مع المشرف الفني، ويبدو أن الفكرة راقته، فأخذ يتزعزع عن حسمه، ولكى أقضى على ما بقى من تردده، قلت له مهتاجا: لن نترك مجلسنا هذا إلا بعد أن توافق، ولن أدعك تنام القيلولة كما تعودت، فانفجر في الضحك، وقال لي: اتركني، وسوف أفكر في الموضوع. وفى صباح السبت، كنت مع المشرف الفني، وهو يضع الماكيت لمجلة كبيرة الحجم، عريضة طويلة، لا تشبه غيرها من المجلات حجما وموضوعا، وهكذا ظهر العدد الأول من “فصول” وأحدث تأثيرا كبيرا على امتداد الوطن العربي.