يبدو معظم السياسيين الذين يقرأون المشهد العربي بفزع شديد هذه الأيام، ويرصدون حركة بعض الشوارع الهادرة من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، كمن أخذ على حين غرة، ويبدو أن أغلبهم قد اكتشف فجأة أن هذه المساحة الممتدة بين دائرتي عرض 2° و37.5° شمالا وبين خطي طول 60°شرقا و17° غرباً، والتي تمثل 10 % من مساحة اليابسة يعيش فيها بشر، بإمكانهم أن يتحركوا خارج أطر المؤسسات الحكومية والسلطات والأوامر، وبأن لديهم الجرأة كي يسيروا في الشوارع مطالبين بحقوقهم ومطالبهم، أنه الاكتشاف الأكبر في عالمنا العربي بعد اكتشاف الأسطرلاب والبوصلة والرقم صفر الذي أهديناه للعالم ثم طبقناه على بعض شعوبنا فاعتبرناها صفرا لأننا فقدنا البوصلة. نعيش جميعا بلا استثناء صدمة السقوط المدوي للمقولات الكبرى في حياتنا العربية السياسية، وأولى المقولات الكبرى التي سقطت هي خروج الشعوب إلى الشوارع لأجلها، لأجل إعادة صياغة علاقتها بأوطانها، لإعادة اكتشاف ذاتها وعلاقة هذه الذات بقانون الحركة والفعل والتأثير في هذا الكون، ولإعادة ترسيم الحدود بين السلطة باعتبارها أداة نظام وتسيير أمور الناس وحمايتهم وتوفير مستلزمات حياتهم بكرامة وبين ما صارت عليه في كثير من الأوطان حين تحولت إلى أداة لمصادرة حق الإنسان في الحياة الكريمة. نعيش جميعا في الوطن العربي مرحلة ما يسمى بسقوط السرديات الكبرى في التاريخ العربي، ونهوض سلطة الإنسان العادي القادر على أن يتحدى الدبابة ورصاص رجال الشرطة ويخرج مطالبا وبمستقبل عياله وخير بلده، حيث الموت جوعا لم يعد هو الحل أبدا، لذلك فإن عالما جديدا يتشكل اليوم أمامنا مباشرة، يعيد رسم الخرائط ورسم الحدود ورسم العلاقات ورسم التوازنات في بعض المجتمعات العربية التي لم يعد بالإمكان إعادة الغضب الذي تفجر من أرجائها إلى سابق مكامنه. لقد قادت كثير من الأنظمة شعوبها نحو الفقر بدل الرخاء وباتجاه الغل والغضب بدل التمتع بالعدالة والحرية، راكمت بينهم عقودا من الحرمان والإقصاء والفساد، وحكمتهم بالحديد والزنازين، فاستكانت هذه الشعوب طويلا جدا، بل وأطول مما يجب، حتى اضطر شاب تونسي في ريعان شبابه أن يحرق نفسه أمام العالم كي يبلغ رسالة مفادها أن النار التي سيحترق بها أكثر رحمة من نيران الظلم وبعثرة الكرامة على أرصفة البطالة والحاجة والموت، غرقا في بحار العالم بحثا عن منافذ حرية. ما يحدث في بعض شوارع العالم العربي مخيف، ومقلق، وصادم، لكنه منطقي جدا بحسابات المقدمات والنتائج، على اعتبار أن النتائج رهن بمقدماتها، وعلى اعتبار أن العالم العربي وحدته حقيقية، وثرواته ضخمة وشبابه قوة لا يستهان بها، وأن رخاء الأوطان لا يتأسس على الظلم ولا يستمر إلا بخير الإنسان، وخير الإنسان ليس صعبا لمن ألقى السمع وهو شهيد، اليوم يتصدر الشعوب المشهد لتقول ما سكتت عن قوله عقودا طويلة، لكن الأمر لن يقتصر على تلاوة بيان بالمطالب، بل سيتلوه سقوطا مدويا لثوابت كبيرة على ما يبدو. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com