صباح الخير يا عم اسماعين..
صباح الخير لعينيك اللتين تتسعان لكل الدنيا وتضيقان على محجريهما..
صباح الخير لتلك الغضون التي انحفرت في الوجه، وتركت الزمن يعبر خلالها، كما قناة السويس تلوّح للسفن الغادية والآتية، من مكانها الذي لا يتغيّر.
صباح الخير ليديك المعروقتين وهما تحملان كوب الشاي، كآخر قطرة حياة في آخر الليل.
أعرف أيها العجوز الطيّب ما الذي ستقوله الآن. ستسبقني في الإجابة عن سؤال لم أنطق به بعد: “الحمدلله نمت كويّس”...
أنت تكذب يا عم اسماعين. أنا أعرف، وأنت تعرف، إنك تكذب. أنت لم تنم منذ دهر. منذ ألف عام. لا تريد أن تضيّع لحظة واحدة في النوم. “النايم شَبَه الميّت”. ألست أنت من تقول لي ذلك؟ وأنت لا تريد أن تكون ميتا، طالما الدماء تسري في شرايينك. أعرف أنك غير متمسك بالحياة، وغير مقبل عليها، لكن مهمتك لم تنته بعد. ما زال مخزونك من الكلام وافرا. ما زال مخزونك من الغضب مستعرا. ما زال مخزونك من النشيج المكتوم فوّارا.
هه.. هل رأيت؟ ها أنت تمسك بحبل الكلام من حيث عقدته أمس. أنت لا تضيّع الفرصة أيها العجوز. كل كلمة، كل حركة، هي مدخل للحديث عنه. تقبض على لحظة الكلام كجمرة ملتهبة. “كان طاهر يحب الكتابة بالقلم الأحمر...”. تقول لي. هذا مدخل مناسب لاستئناف حديث، لم ينته، ولن ينقطع. أنت لا تلومني لأنني أستخدم القلم الأزرق. ولكنك تريد ذريعة لموضوعك الأثير. لم أسمعك مرة تقول: “كان المرحوم طاهر...”. هو بالنسبة إليك يعيش فيك. اسمه على طرف لسانك. شايه دائما جاهز. وسيرته نضرة في كل “الحواديت”.
“كان بيكتب بالأحمر لأنه كان عارف...”. تسكت. هل عليّ أن أملأ فراغ الصمت الآن؟. أذكر، أنك قلت لي مرة، أنه كان معجونا من طين وماء. كان من طمي هو. يحمله تدفق النهر فيمكث في الأرض، ثم تطرحه غيطان الفلاحين يانعا. كم أنت بليغ أيها العجوز..
تتبرم من صمتي يا عم اسماعين. تعرف إنك لا تضرب على طبل أجوف، ولكنك تريد أن تسمع كلامك بصوتي، وأنا مخنوق...
“كان بيكتب بالأحمر لأنه كان عارف إن البلد دي محتاجة للأحمر علشان ما يبقاش مستقبلها إسود.. هو لما راح كان عارف...”. نعم، يا عم اسماعين، سوف أسمع منك بقية الحكاية التي أعرفها. أعرف أنه رفض الإعفاء من الجيش. أعرف أنه عندما عبر مع رفاقه، لوّحت له كل حبة رمل على ضفتي القناة. كان كهذا النهر الدفّاق يحمل على كتفيه كل طميّ السنين العتيقة، ويطرحها فوق كثبان الصحراء بلون أحمر يانع.
أعادوه إليك ملفوفا بعلم يا عم اسماعين. لكنك ما زلت تنتظره كل ليلة. تعد له الشاي. وتحضر له صحيفة الصباح. وترتب أوراقه وقلمه الأحمر، لأن عليه مهمة أن ينجزها. فالطمي الذي نثره جفّ وتخشّب. لم يعد أحد يكتب باللون الأحمر يا عم اسماعين. كلهم سود. يكتبون بالأسود، ويحكون بالأسود..
“مش قلتلك؟”. نعم. “مش قلتلك كان عارف”. نعم. أنت لا تبكي يا عم اسماعين. لم تذرف دمعة على طاهر، ولا أنا...
صباح الخير يا عم اسماعين..
أنا اليوم بكيت، أيها العجوز الطاعن في الحب، فهل فعلت أنت؟


adelk58@hotmail.com