اليوم رغم البعد، كانت التحية واجبة للأم، والعبارة لازمة للمحروسة والتي لم تستطع السنون التي مضت أن تغير غير وجه القاهرة، لكنها ما بدلت طبيعة القاهرة الساكنة بوجع العروبة، وفرح العروبة، إذا ما لاح في الأفق فرح معمم بتيجان العرب•
القاهرة التي ننشد، تلك القابعة جهة الشمال، لا يزاحمها في الحب غير المنزل الأول•• الوطن الأول، نعشقها كما هي، بكل تناقضات الدنيا، في أم الدنيا، ضجيجها العالي، طبيعة ناسها، سحر مآذنها والتسابيح الفجرية، والأماكن التي تزخر بروائح التاريخ والعطارة، وجلبة خيول الفتح. ?القاهرة، اليوم صغيرة بحجم بيت الصعلوك الليلي، وثرثراته في الشعر والسياسة، والنكات الخارجة من بطن الأدب، وعن قلة الأدب، وعن الضحك المكشوف والدخان الأزرق.
القاهرة، اليوم كبيرة، بحجم القلوب التي لا تعرف الأسى ولا الأذى، تبسط لك حصيرها الأحمدي الأخضر بلا استئذان، وإن كان رغيف العيش البلدي والجبنة البيضاء التي قطعت آلاف الأميال في قطار متهالك وصرة خبأتها تلك الفلاحة لفلذة الكبد.
القاهرة، اليوم، بعيداً عن صالات الفنادق اللامعة، وردهات المتاجر التي تفتح أبوابها للسياح الأجانب، وأفواهها للسياح الخليجيين، بعيداً عن التحجب والقفازات السوداء التي يراد لها، بعيداً عن الرقص المنفرد الذي أجبرت عليه، والانفتاح الذي قلب الهرم.
تظل قاهرة جمال حمدان والشيخ سيد وصلاح جاهين وعبدالحكيم قاسم ومحمود أمين العالم وأحمد فؤاد نجم وعبدالحليم، وأصدقاء اتيليه القاهرة هي الأجمل والأنقى، تظل قاهرة الحلم القديم، والأشياء الجميلة التي زرعها ذلك الراقد في قبر الفخر والكرامة، وقلب الفلاح الفصيح•? تظل قاهرتنا التي حفظناها من نقطة أول السطر هي التي نهوى، نائية عن رياح الخماسين، وتقلبات شهر جليم.
قاهرة اليوم، قد تتمرد على أبنائها، أبناء الوطن الكبير الدارسين، وعلى أصدقائها المخضرمين، وعشاقها القدامى، لكن يظل الرهان على قلبها الكبير، على قلب بهية تلك الأم المصرية الممتلئة عافية والتي تخاف على ابن الجيران أكثر من ابنها، تلك المرضعة التي ترسل رضعها عمالاً يغتسلون بمياه الخليج وعرق شمسه التي لا تغيب، معلمين يستقرون في أطراف الدنيا، يحفّظون الصغار نشيد بلادي قبل حروف الهجاء، تفرح بعودتهم الصيفية وبالأشياء الصغيرة التي يحملونها لأحفادهم الصغار، تظل قاهرة نجيب محفوظ ويوسف شاهين ونجيب سرور، التي تسللت إلى الذاكرة كطعم السكر، هي التي تشتعل فينا، وتمطرنا بين حين وحين بالعطر العروبي، ومسك المساجد القديمة، تظل القاهرة أم الدنيا•• أم الجميع، لذا وجب علينا إلقاء التحية قبل أن نيمم شطر إسكندرية، وشط إسكندرية• 


amood8@yahoo.com