إذا كانت الديمقراطية وسيلة لانتزاع حقوق، وتقاسم علاقة حب الوطن، فإن غاية الديمقراطية هي أن يجد الإنسان نفسه في صلب العملية التنموية، وفي أحشاء العمل الوطني وبناء الوطن. ولم تكن الديمقراطية في يوم من الأيام شعاراً وانتماء، ولم تكن في يوم من الأيام حلبة للمصارعة الحرة يتقاتل فيها طرفان للفوز بحزام ذهبي ويخرج الخاسر مكسوراً مدحوراً مقهوراً مغسولاً بدمائه وانطفائه. الديمقراطية هي بيان لواجب الفرد تجاه الوطن، وبيان لقدراته على الإيفاء بهذه الواجبات دون انتظار شكر أو مديح. الديمقراطية تعتز بكل ذرة من ذرات الوطن، وبكل مكتسب من مكتسباته، وبكل منجز من منجزاته. الديمقراطية أن نعلم أبناءنا كيف يحبون أوطانهم، وكيف يحافظون على مقدراتها، وكيف يتفانون من أجلها، ويبذلون الغالي والنفيس من أجل الحفاظ على سلامتها وأمنها وطمأنينتها. الديمقراطية الحقة ليست صياحاً ونباحاً ونوحاً مستباحاً، إنما هي قدرة الفرد على الإحساس بالمسؤولية تجاه الوطن والالتزام بحقه في الدفاع عن تضاريسه الاجتماعية والثقافية، بكل ما أوتي من قوة. الديمقراطية أن ينشأ الصغير ويعرف أن للوطن حقاً، كما عليه واجبات، ومن لا يعرف حق الوطن عليه ليس له حق في الواجبات. الديمقراطية أن ينشأ التلميذ الصغير بالتعرف على أبجديات العلاقة مع مدرسيه وزملائه، وكذلك الكتاب المدرسي، والكرسي الذي يجلس عليه. إذا لم يترب الصغير على أهمية هذه المفردات بكاملها، فإنه يشب إنساناً فاقداً ومعقداً ومحتقناً ومتورماً، أشبه بالبالون سرعان ما ينفجر، ويذهب إلى اللاشيء. الديمقراطية أن يتعلم أبناؤنا كيف يخاطبون الآخر وبأي لغة ومتى وكيف وأين. الديمقراطية أن يتخلص الإنسان أولاً وأخيراً من عاطفة الكراهية، كراهية الأشياء من حوله ثم الناس، واستبدال ذلك بالحب. الحب وحده الذي يخصب المشاعر، ويهذب القلوب، ويشذب العقول، ويجعلها ساحة معشوشبة بحشائش الالتصاق بالأرض وعشقها وعشق كل من يمشي على ترابها. وعندما يحب الإنسان يكون مستعداً لنكران الذات، والتحرر من الأنانية والانعتاق من صهد السوداوية المقيتة. الديمقراطية لا تجلبها المجالس والهيئات والأحزاب، وإنما هي وليدة الكيان الأسري ثم المدرس، ثم المجتمع، وإذا غابت قدرة هذا الثلاثي عن التنشئة الصحيحة، فإن ما ينتج عنها، كائن متوحش، يسوط نفسه كما يسوم غيره أشد أساليب السخط والحقد. حاولنا تقليد ديمقراطيات وأساليب تعامل ففشلنا كما فشل عباس بن فرناس، ووقعنا وقعة “سودا”، دول تنهار ومؤسسات حكم تقع على الأرض كالزجاجات الفارغة بسبب هذا التقليد الأعمى، دون معرفة بدقائق وتفاصيل النفس البشرية. علي أبو الريش | marafea@emi.ae