أمر آخر يدلل على الفهم هو ذلك التناص الفكري والثقافي والحوار الذاتي البعيد، كما لو أن حالة شائكة من التراكمات تفضي إلى الإدراك والتعبير الثقافي أو تنشد التغيير، حالة تؤثرها الشعوب وتصدقها وتتسع بها. بالإرادة الثقافية وبالتعبير الصادق حين يسري في شريان ووجدان الأمة.. هكذا يمكن أن نرمز إلى الشعب التونسي بكل أطيافه حين صنع ثورته.. ثورة الياسمين أو ثورة الحرية التي امتدت على الظلم والظلام وعلى الصمت المزمن، والذي اختزل كثير من الحوارات المهمة، وصادرها ومرر الوقت المجاني، فاتشح الشعب بالفقر، وبحالات التحجيم وكل مآسي الحياة التي قبعت سنوات طويلة. تذكرت المثقف التونسي الحي من خلال ما أعرف عنه من خلال زيارات متعددة ولقاءات امتدت لسنوات، جمعتني بما يجسد جمالية مطلقة للبلد وثقافة أهله وأطيافه المختلفة وحواراته غير المنتهية والنابعة من مكونه الذي لا ينضب. تذكرت بائعو الياسمين من الأطفال بمدينة الحمامات، وهم يرتدون البياض ويجوبون الممرات ويخاطبون رواد البحر والمارة من السياح، تذكرت ذلك النادل البسيط المشبع بالقراءة لدرجة التفوق بما يحمله من زخم ثقافي وما يمتلكه من الرؤية الفاحصة للرواية العالمية والعربية، وكأن الذي أمامي ناقد له دراية عميقة بمدارس الكتابة الروائية. أمر يعيد لك السنوات بما يقارب إثني عشر عاما، حينها قدم الكاتب والروائي التونسي حسن بن عثمان فقال لي باندهاش: امرأة تونسية تعمل سائقة لتاكسي، هذا لم يحدث بتونس من قبل، مما بدأ يوحي وكأن حديث المعاناة في بداية التشكل، وبداية استشراء الحالة الاقتصادية الصعبة، مما جعل مراده يجر نحو الثقافة المجاورة، وما يعتري الثقافة التونسية كثير من ملامح الثقافة الفرنسية الخارجة من جلباب الحرية. تذكرت أصدقاء دأب كل منهم على التواصل الثقافي، الشاعر والصحفي ساسي جبيل الذي عشق الإمارات وتردد عليها بمناسبات مختلفة وكتب عنها كما لو أنه يكتب عن بلده تونس، تذكرت الناقد الجميل د. الزمرلي الذي تواصل مع الثقافة الإماراتية وتناول أدباءها وأعمالهم الأدبية، ونشر عنهم في دوريات مختلفة، تذكرت الإعلامي المبدع كارم وكل الأصدقاء من الوسط الثقافي التونسي وأعمالهم الأدبية والثقافية الرائعة. تونس بلد الحرية الثقافية، وبلد الأحلام الكبيرة، لذا لا تكتفي بالتعبير المطلق مهما كان الحراك الذي حولها ومهما تبددت الرؤى، إلا أن حضورها الثقافي زاخر وزخم بمهرجاناته الشعرية والفنية وبطابعها التاريخي وبمورثها وبحكاياته التي تعود إلى فجر التاريخ، لذا لا يستحق هذا البلد إلا الكلمة الحرة، والتي بدأت تؤتي ثمارها وتأخذ مدى أجمل وأنصع، وتهب خيوطها النيرة إشراق التجدد لأنه تجسيد ثقافي تجلى إلى حيزه الأكبر.