“يا صديق البحر.. كم مضى على خروج حورية البحر، أنت في زمن فحولة الجسد.. كانت.. وكنت..”
يطرأ عليه هذا النداء أو هو صيد الخاطر يهجم عليه بعد كل حين من التذكر الصامت أو حين يسحبه التأمل إلى مساحات كان فيها سيداً له صوته الزاجر أو حين يمد رجليه المتعبتين من رجفة المشي، ومحاولة إعادة إيقاع دبيبهما إلى ماضي زمنهما، حين كانتا تغوصان في مياه مالحة بحثاً عن أعطال السفن أو حين كان بطلًا لرمي الجلة، ورياضات كان يتصدر مسابقاتها. قفزت عضلة صغيرة في الوجه الذي ما زال يتسم بجمال ذكوري خشن كوضاءة وجوه الجنود الرومانيين العائدين إلى حاضرة إمبراطوريتهم.
سيماء المحارب هذا هو الانطباع الأول حين تلتقيه، ويستقبلك بصدره العريض، وبقايا تفتل في عضده وكتفه، وحين تسوقه القدمان المرتجفتان تشعر أنه جريح معركة لم يخضها بانتباه كبير.
“صديق البحر... لا يرى البحر إلا من بعيد”!
يوم خرجت حورية البحر من البيت عائدة إلى مائها، لم يتبعها، ولم يجر خلفها، تركها للزرقة، وانضوى للداخل، للحب المنزلي، هو بعد اليوم بحره وهواه وبقايا حبه الذي عطّر البيت، أصبح نديماً للآتين من جهة البحر، عشق حضورهم البهي لمدينته، وعشق الحديقة التي تسور منزله البحري، وتلذذ بإعداد المنزل بطريقة فردانية مذهلة، أصبح المطبخ وإعداد الأكل جزءاً من الهروب من الساعات والوقت، وجزءاً من انتقام من الشبح الأنثوي الخارج من البيت بلا رجعة.
اليوم.. يدخلن البيت حوريات، ويخرجن منه حوريات، كمظهر اعتاد عليه، ومنظر لا يوجع قلبه كثيراً، ما زال سيد نفسه، لا يذهب إلى أحد، يدير بحره وصيده من مكتب بيته.
مصلح السفن كانت مهنته حتى انغرزت الحدائد الصدئة في البحر في عظم الظهر، وحين جاورت الكلس جعلت الجسد ينكمش على الألم.
حين يتذكر تلك اللحظة التي انطفأت فيها عيناه، وغاب في الدم، يشعر حتى الآن، وكأن الألم يمشي في نسيج جلده فترجفه اللحظة، في تلك اللحظة شعر وكأنه حوت جريح في بحر خانه للتو.
يطبق على بقية الوسامة التي تسجنها الإعاقة اليوم، والقرار الأنثوي المفاجئ بالرحيل عن قبطان جريح وسط اليابسة، غير أن روح التحدي والمكابرة على الآلام قادرتان أن تعطيانه تلك الرجولة الصلبة التي تجبر الجسد على عدم الانهزام.
تعثر الخطوة، يدخل إلى نفسه نوع من الخجل أو انكسار العين، بدا يكره أن تمشي أنفاس خلفه، يشعر وكأنهم يعدون خرز ظهره المتعطل، ويزيد من رجفة القدم، واضطراب إيقاعها.. يتمنى لو يعتدل الظهر كسابق عهده، وتنتظم القدمان، ويدخل مدينته كيوم كان عريساً، داخلاً دنيا حورية البحر أو خارجاً من زرقة بحر يحبه حد البكاء!


amood8@yahoo.com