ظالمٌ أو جاهلٌ من يتّهم العقلَ العربيّ بالقصور في التخيّل والخيال، ومنهم بعضُ المستشرقين كالمستشرق الفرنسيّ أرنست رنان الذي يزعم أنّ العربَ لا يملكون من الخيال العظيم شيئاً، ويَقْصِرُ ذلك على الخيال الإغريقيّ الذي كان يتّخذ من وثنيّة الآلهة لمعظم القيم، وأنّها تتحكّم فيها مثل ما نجد للجمال ربّة، وللخصب ربّةً، وهلمّ جرّاً... نحن لا ننكر أنّ للإغريق القدماء خيالاً بعضُه بديع، وبعضه ساذَج يحتاج إلى تأسيس وبناء، ولكنّا لا نُخرج العرب من تلك الدائرة، ولا نُقْصيهم من روعة التخيّل إذْ هم لم يربطوا أخيلتهم بالربّات المتحكّمات في القِيَم، ولكنّ خيالَهم حمَلهم على أن يعتقدوا أنّ تلك الربّاتِ آلهة للعبادة كآلهة اللاّت التي كانت بالطائف يتعبّدها أهل ثقيف. ولا يقال إلاّ مثلُ ذلك في كثير من الآلهة الأخرى التي كان مصدرُ تأْليهِها تخيُّل العرب أنّها، فعلاً، قيمة عظيمة يلتحدون إليها حين تَحْزُبُهم المكاريهُ. وأمّا الضرْبُ الآخر من طبيعة الخيال العربيّ فهو تخيُّلُُهم أنّ الجانَّ قادرون على فعْل كلّ شيءٍ عظيم وجميل، ولا يستطيع البشر أن يفعلوا ذلك إلاّ إذا كان لهم ارتباط بهم ليسخِّروا لهم ما يستعصِمُ عليهم، ولذلك لَمّا رأوْا بلقيس ملكة اليمن، تحكم الرجالَ عدّوا ذلك من الخوارق فزعموا أنّ أمّ بلقيس كانت جنّيّة. ونجد الجاحظ ينقل عن الناس أنّ بناء الحمّامات لما فيها من فسيفساء هي من أعمال الجنّ في كتابه “الحيوان”. كما كان الخيال العربيّ ينسِبُ كلّ ذكيّ يستطيع أن يفعل ما لا يستطيع غيرُه أن يفعله إلى وادي عبقر، وذلك إلى الحدّ الذي جعل أجدادَنا الأقدمين من العلماء يترجمون لوادي عبقر على أنّه من جغرافيا الجنّ، ولكنّ جغرافيا الجنّ كانت تتقاطع مع جغرافيا الإنس، فنجد ياقوت الحموي، وصاحب معجم ما استعجم يترجمان لعبقر على أنّه موضع بالبادية كثير الجنّ، وإلى الحدّ الذي جعلهم ينسِبون كلّ شخصٍ شديد الذكاء، بارع الأعمال إلى هذا الوادي العجيب، الذي لا وجود له في عالم الواقع على كلّ حال، إلى عبقر، فيقولون: “عبقريّ”. وأمّا المكان الذي يتوِّج الخيال العربيّ في الاعتقاد بعظمة الجنّ وقدرتهم على فعْل ما لا يفعله الإنس، فهو عين وَبَارِ. وهو المكان الذي أوّلُ من دُفِعَ إليه من العرب دُعَيْمِيص الرَّمْل، وأنّ الجنّ حين وقع له ذلك الوادي خيّرتْهُ بين أن يكون أشعر الناس، أو أهدَى الناس، فاختار الاقتراحَ الثاني. وكان يُضرب المثلُ بدعيميص الرمل في الهداية في مفاوز الصحراء، فكانوا يقولون: “أهدَى مِن دُعَيْمِيص الرملِ”! “لأنّه لم يدخل أرضَ وبارِ غيرُهُ”، ولم يضربوا به المثل في ذلك حتّى ربطوا حياته بتصرّف الجانّ، فقد قام يوماً في الموسم ونادى: “منْ يُعْطِنِي تِسعاً وتسعين نعجةً هِجَاناً أَهْدِهِ لِوَبارِ”، فلم يستجب له إلاّ رجلٌ تحمّلَ معه مع أهله، فلما أمعنوا في المفاوز “طمست الجنّ بصر دعيميص واعترتْه الصَّرْفةُ فهلك ومن معه جميعاً”.