كان الوقت عصراً، وكانت الرحلة طويلة جداً من ميونيخ إلى فينيسيا مروراً بمدن إيطالية أخرى، لكننا وصلنا أخيراً، وهاهي فينيسيا أخيراً تلوح لي كخيال أو كمستحيل تحقق بعد حلم طويل، بدا لي الأمر منذ البداية كمن يمشي وهو نائم ووجدت شبابا من جنسيات مختلفة يصرخون بمجرد نزولهم من القطار: إنها فينيس أخيراً، ولما التفتت صديقتي باحثة عن مخرج أجابها شاب أميركي وسيم: ستعبرين هذا الدرج الكبير ومن ثم سيصادفك رصيف هائل تقف على جانبه الكثير من القوارب، إنك على بعد خطوات من المدينة الأجمل. عبرنا الدرج الكبير لمحطة فينيسيا الرئيسية، وإذا بنا أمام فضاء الرصيف الهائل والقوارب والجناديل الإيطالية التقليدية وبشر بلا حصر ومن كل الجنسيات، كانت إحدى السيدات تتقدم طابوراً من الصغار يسيرون بشكل شقي ولافت، وإذا بي ودون أن أشعر ألتقط صوراً للصغار من قبيل الذكرى، فإذا بالمدرِّسة تقف أمامي مطالبة بمسح الصور لأنني انتهكت خصوصية الصغار دون إذن، أريتها الصور التي التقطتها وأفهمتها بأنها صور عادية للذكرى، هزت رأسها ونادت على شاب ليترجم لي كلامها بالإيطالية، أحسست بالحرج فمسحت الصور واعتذرت سريعاً ومشيت. في أول انطباع لي عن المدينة، أحسست بأن الإيطاليين شعب جلف بعض الشيء، لكنني بعد أن تغلغلت في أحشاء المدينة ازددت قناعة بأن الجلافة أمر مرادف للوضوح والصراحة، نحن فقط من نعتقد أن الذين يصرحون برأيهم ويقولون ما يجب أن يقال وبدون لف أو دوران هم ناس أجلاف، لكنني تعودت على تلك الجلافة فلا أحد هناك يجاملك في حق أو التزام أو قانون، ما عليك سوى أن تعرف ما لك وما عليك وأن تلتزم ولاتتهاون، وعندها لن يحرجك أحد ولن يعتدي على حقك كائن من كان! في أكثر من مكان تنازل أناس كانوا معي عن حقوقهم، حقهم في الحجز الذي ألغي بدون ذكر الأسباب، حقهم في الغرفة المطلة على البحيرة وقبولهم بغرفة أخرى لأن الفندق طلب منهم ذلك، حقهم في المطالبة بتعويض لأن نادل المقهى تجاهل دورهم ومنحه لآخرين لأنهم عرب ولأن الآخرين أوروبيون، حقهم في تقديم شكوى على سائق التاكسي لمَّا وجه لهم اهانة متعمدة فقط لأنهم عرب، مع أن هناك ورقة ملصقة في داخل التاكسي وبالخط العريض للتقدم بأي شكوى لشركة سيارات التاكسي المعنية و.... الخ. لماذا لم تتنازل تلك المعلمة عن حق أطفالها في الصور؟ وأثارت زوبعة لزائرة غريبة مثلي تطأ البندقية للمرة الأولى في حياتها؟ ذلك لأنها فكرت في واجبها أولا تجاه الأطفال، ولأنها على وعي تام بحقها وبالقانون الذي يحمي هذا الحق، ومن طالب بحقه على وضوح وبينة فإنه بلاشك سيكون قويا الى النهاية، وثالثا لأنني كسائحة لا يبيح لي من وجهة نظر تلك الايطالية أن أخترق قوانين البلد الذي أنا مجرد ضيفة فيه، هذه قضية في غاية الخطورة لم نتوصل إلى تفكيك ملابساتها بعد في كثير من أوطاننا السياحية ! لدينا خلط كبير في كل ذلك، فنحن لاندافع عن حقوقنا ولانطالب بها ونتعلم منذ صغرنا أن نتنازل عنها إيثاراً للسلامة وبحجة أننا اذا تنازلنا نكون الأفضل فالصلح خير، والحقيقة أن مسألة المطالبة بالحقوق تربية وعادة وطريقة تفكير يحتاج الوطن العربي الى تكريسها لتصير ذهنية تفكير سائدة. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com