الغريب أن الحضارة الأوروبية وعت الدرس العربي القديم للحضارة العربية التي أخذت عن الحضارات السابقة، وأضافت إليها بما أكّد تميزها وإضافاتها الخلاقة التي ظلت قائمة إلى أن بلغت ذروتها التي تمثلت في فلسفة ابن رشد الذي كان ذروة صعود الحضارة العربية وعلامة بداية انحدارها في آن، وكان ذلك نتيجة هيمنة تيارات النقل الجامد التي أوغرت صدر الخليفة الموحّدي عليه، ومن ثم سجنه والتنكيل به. وكانت محنة ابن رشد إيذاناً بخفوت صوت الفلسفة بوجه عام، ودوافع التفكير الحر بوجه خاص، وكانت النتيجة شيوع المبدأ الذي يقول “من تمنطق تزندق”، ومطاردة المفكرين والفلاسفة بتهم الهرطقة والابتداع التي أدّت إلى حرق كتب الفلسفة في ميادين بعض العواصم العربية، ولم يقتصر الحرق على كتاب مثل “إحياء علوم الدين” في المغرب، وإنما امتد إلى القاهرة ودمشق وغيرهما من العواصم الكبرى للثقافة العربية التي شهدت تعذيب العديد من أحرار الفكر الذين كانوا آخر الشمعات المضيئة في مغرب الحضارة العربية التي سرعان ما غربت عنها الشمس، وكان ذلك على النقيض من أوروبا التي بدأت نهضتها بترجمة أمثال ابن سينا وابن رشد، وجعلهما علامتين على تيارين سينوي ورشدي. وشملت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية الكثير من العلوم والمعارف العربية التي اضطهد رجال السلفية الجامدة دعاتها إلى أن عم الظلام العالم العربي، بينما انتقل الغرب الأوروبي ليكرر التجربة العربية، فترجم عن العرب، لكنه أضاف إليهم، وكانت النتيجة تحرك الروح الخلاقة للابتكار والتجريب، فاندفعت النهضة الأوروبية إلى الأمام، ولم يتوقف مسارها، على الرغم من اضطهاد المتعصبين المسيحيين الذين تكاثروا أيام محاكم التفتيش، ولكن الحركة الصاعدة إلى الأمام لم تتوقف، ولم ينقطع مسار العلم أو الفكر في صعوده، وإنما انطلق إلى الآفاق المجهولة التي بدت كما لو كانت تؤجج في الكشف عن كل ما ظل في حاجة إلى الكشف، ولذلك تصاعدت النهضة الأوروبية ولم تتوقف، خصوصاً بعد أن تم فصل الكنيسة عن الدولة، أو تحرر الدولة من الكنيسة، وقامت الدولة المدنية الحديثة التي لا تستمد مرجعيتها أو مشروعيتها من سلطة دينية، وإنما من سلطة مدنية، وذلك في دول، إطارها المرجعي هو الدستور والقانون البشريان، ولحمته وسداها الفصل بين السلطات وتأكيد معاني المواطنة التي لا تعرف التمييز بين المواطنين على أساس من العرق أو الجنس أو الدين، وكان ذلك بعد ثورات دفع فيها الشعب ثمن حريته التي صانتها دولة مدنية، أدركت أهمية الحرية بكل جوانبها، ابتداءً من السياسة وانتهاءً بالعلم، فوصلت أوروبا إلى ما وصلت إليه في سلم صعود الحضارة التي لا تزال ترتقيه، على عكسنا نحن الذين كنا أصل حضارتهم.