المبدع في الوطن العربي، الذي لا يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، يعيش حياتين معقدتين تتطلبان جهدا استثنائيا كي ينجح في إدارتهما.. حياة المبدع بكل هواجسه وصورته وشخصيته التواقة للانطلاق والابتكار، وحياة الموظف الملتزم والمطيع.. وبين الحياتين مساحة يعمل من خلالها المبدع على برمجة نفسه، فعليه أن لا يترك نفسه لسطوة العمل الإبداعي ونشوته إذا ما استبد به ليلا، لأن عليه الالتزام بالدوام الصباحي، فإما أن يسهر الليل بطوله ويذهب إلى العمل مواصلا الليل بالنهار، وإما أن يمارس دكتاتورية مقيته على تدفقه، فيوقف شلال فتنة اللغة ونبع الأفكار ليذهب ليسلم نفسه إلى سلطان النوم، الذي قد يأتي ولا يأتي، وغالبا لا يأتي إذا ما كانت الفكرة رعناء ملحة متسلطة ونافذة لا تقاوم. والمبدع العربي يعيش ازدواجية، فهو يتأرجح بين الشخص الوقور والشخص المنطلق، وما بينهما حقل شوك يذيقه من العذاب ألوانا، خاصة إذا كان يحمل هم أسرة، وحتى يتخلص بعض المبدعين من هذه الازدواجية، فإنه يغض الطرف إما عن الشخصية المبدعة، أو الشخصية الوقورة، وعليه أن يتحمل وزر اختياره، خاصة إذا اختار أن يغض الطرف عن الشخصية الحقيقية، وهذا يعني تراجعا في إبداعه. والمبدع العربي يعيش نوعا من مصادرة الذات، خاصة في مكان العمل، إذ عليه أن ينسى شخصيته المبدعة طيلة فترة الدوام، ويحيا حياة الموظف، ويرضى بأن يكون كآلة، أو عليه أن يحتمل سماع محاضرات وآراء لا تتجاوز معانيها أشكال حروف لغتها، ويصبر صبر أيوب، بينما يعاني من كبح تدفق حمم بركانه الداخلي. كل هذا يحدث لأن المبدع لا يستطيع أن يعيش حياة كريمة من وراء نتاجاته الإبداعية، وكبار الكتاب والفلاسفة فشلوا في اعتمادهم على إبداعهم في تحصيل قوت يومهم، ليس عيبا في نتاجهم، ولكن لأن المنظومة الثقافية لم ترتفع بقيمة المبدع إلى مصاف التميّز، ولم تضعه في مرتبة تحفظ له تقديره، ولم تتعامل معه كعلامة وطنية، كما تتعامل المصانع مع المنتج التجاري (العلامة التجارية)، أو كما تتعامل المؤسسات السياحية مع الوطن أحيانا، كعلامة سياحية، وإنما يحدث العكس، فتتعاطى معه المؤسسة تعاطيا لا يخلوا من ممارسة الضغوط عليه كي لا يستقل بذاته، ويبقى تابعا لها، ويلعب التعليم دورا سيئا في صياغة هيئة المبدع، ويترك قيمة الإبداع في مهب الريح وهي تتنافس مع القيم الأخرى، والبهرجات المستشرية. هنالك أكثر من جهة تتعامل بأسلوب غير احترافي مع المبدع، فدور النشر تسوّق فكرة غريبة عجيبة مثل: “إن الشعب العربي لا يقرأ”، وهذا يدل على فشلها، وأماكن العمل تصادر شخصية المبدع في مكاتبها، ولا تستفيد منه قيد أنمله، وهو أمر بحاجة إلى مراجعة حتى تعود الأمور إلى نصابها.. المبدع والوظيفة ليسا نقيضين، وإنما بحاجة إلى رجل شجاع كي يدمج الشخصيتين ليسود التألق. akhattib@yahoo.com