يرمي ابن المساكين قميصه الممزق على الأرض ويركض مبتهجا عند نزول المطر في الأحياء والسكيك الضيقة. قدماه الحافيتان تغوصان في الطين وهو يرقص لا يبالي بلسعة البرد، لاهيا منتشيا مع فرح الطبيعة بينما جاره ابن الأثرياء مكتوفا متدثرا يراقبه بحسد من نافذة في الطابق الثاني.
يرمي إبن السماكين نعليه على الرصيف ويركض على طول ساحل البحر متلاعبا بالموجة مرة يصطادها ومرة تصطاده، ومن الموجة تعلم إن الحياة مد وجزر وإن الرحيل الى البعيد يحتاج الى أن تتجاوز فكرة التردد وتقفز شجاعا قويا في سفينة المغامرة. وعلى الساحل تعلم إبن السماكين أن يراقب ظله الطويل يمتد كلما غابت الشمس في الأفق الأزرق. هذا الطفل عندما كبر في زمن المدن الزجاجية تباعدت خطواته عن البحر فنسي ظله وما عادت الشمس تلفح رقبته المنحنية على مكتب الوظيفة.
يرمي إبن الحداد حقيبته المدرسية ويقرر أن يساعد والده في تطويع الحديد. الوهج الرمادي الطالع من فوهات الفرن يصبغ لونه بالأسود لكنه لا يكترث لتبدل لون جلده المغطى بالدخان فيما عيناه تتسعان حمراوين أمام الجمر. إبن الحداد سيدرك مبكرا إن القسوة تحمل داخلها الطيبة، ومثلما يلين الحديد يمكن أن تلين القلوب القاسية عندما يتاح لها أن تهدأ بعيدا عن نار الغضب والتكبر والخوف ومن هذه القلوب يمكن أن تنبع الرحمة الصادقة كل الصدق.
يرمي إبن مدير البنك بقايا الآيسكريم الملون من غير أن ينهيه. ثم يصعد في ليموزين البذخ متوجها مع رفاقه الى السينما، حيث يتابعون جميعهم فيلما عن انتهاء الكون في العام 2012. وبعد الفيلم لا أحد منهم يخرج خائفا من زوال النعمة أو إنقلاب المصير. إبن المدير يقول: «ان حدث ذلك حقا وانتهى العالم سأركب طائرة تعصمني من الأرض. وقد أعود يوما، انا وأبي وأمي لنؤسس البشرية من جديد». ناسيا ان البنوك أول من سينهار في تلك الكارثة.
ترمي إبنة السجان خمارها في الوحل وتركض يتبعها شعرها الطويل في الريح نحو السجون القابعة في النفوس وتصرخ: «ايها الخائفون من المصير ماذا تنتظرون في الظلام؟ انني انتظرت حبيبي عشرين عاما وراء قضبان نافذة البيت ولم يصل. كنت احكي للنجوم وللقمر قصة الحرية التي اختنقت في صدوركم وصارت شللا وعجزا في الأرجل والألسن والقلوب. كيف أحب رجلا يخاف من المغامرة ولم يستطع قط ان يفتح بابا موصدا في طريق الخلاص. جميعنا اسرى، لكني هربت من الشقوق حتى تمزقت ثيابي لانني قررت ان ارى الشمس وان امرّغ رجلي في ماء البحر وقد ارحل في سفن الهالكين لا أُبالي بمصيري ما دمت اقتربت من نشوة الحياة وقفزت عاليا في مجهولها».
أخيرا..يرمي العاشق خوفه في النار ويتبع من يحب.. وقد يصبح سيرة وأملا ونورا للعاشقين في ليل انتظارهم الطويل.

akhozam@yahoo.com