تقاتل ثوران، فولد على دمائهما وطن. هذا ما تقوله الأسطورة، وهكذا يؤمن الإيرلنديون بأقدارهم. سطوة هذه الأسطورة بدت وكأنها خطأ في التاريخ وخطأ في الجغرافيا. أن يكون الإيرلنديون جيران الإنجليز، وحديقتهم الخلفية، ومكب نفاياتهم في آن، أمر يجعلهم يبتلون بالحمى كلما أصيبت الإمبراطورية بزكام، سواء في شبابها أو عندما بلغت أرذل العمر.
إدنا أوبراين، تهضم في كتابها “أيرلندا الأم” (الصادر عن مشروع قلم ـ هيئة أبوظبي للثقافة والتراث)، عذابات بلدها. تسردها بوجع المصاب للتو بجرح بليغ. تشبك سيرتها الذاتية بسيرة المكان. تصبح ذاكرتها ناطقة بلسانه. لكنها ـ مع ذلك ـ تكتب عن وطنها بعتب. تعاتبه على أقداره وليس على اختياراته. تقول إنها هربت من إيرلندا، بعد شجار انتصرت فيه عليها، وانتقلت إلى لندن.. عرين الأعداء الذين كانوا يتمرنون على نهجهم الاستعماري في شوارع دبلن وبلفاست.
لم تكتب أوبراين على طريقة الداغستاني رسول حمزاتوف، الذي بجّل موطنه في لحظات جبروته وسنوات وهنه، وظلت موسكو بالنسبة إليه رمزا “برّانيا” لمكان تشكّل وفقا لأقدار التاريخ والجغرافيا.
كذلك لم تكتب أوبراين بالروح التي جعلت كوكبة مضيئة من زملائها يكتبون عن موطن آبائهم وأجدادهم. منهم فرانك ماكورت، الأميركي من أصل إيرلندي، الذي وصف بسخرية ومرارة في مذكراته “رماد أنجيلا” (1996) طفولة على حافة الفقر المدقع في ليميريك خلال فترة 1930. وكذلك رواية السيرة لشيموس دين وهي بعنوان “القراءة في العتمات” (1996) تروي حكاية طفل من عائلة كاثوليكية تعيش في ديري، من شمال إيرلندا، خلال فترة 1940. وكذلك إيما دونهيو، المولودة في إيرلندا وتعيش في إنكلترا ، تؤرخ لحياة وكفاح امرأة في رواية “حرك المقلاة” (1994).
هؤلاء وغيرهم، فعلوا كما يفعل المقتلعون من أرضهم. حملوا وطنهم في حقائبهم. وتمثلوه في كتاباتهم كمرجعية عاطفية. لم يجلدوا أنفسهم لأن تاريخهم كتبته الدماء والآلام والمجاعة. فلولا تلك المأساة لظل الإيرلنديون في سهوبهم الموحلة يلوكون الأساطير المؤسسة لأوجاعهم. لقد تربت أجيالهم على مادة غذائية وحيدة. صنعوا من البطاطس قوتهم وشرابهم، في مسرّاتهم وأتراحهم. وحينما حصلت مجاعة البطاطس الكبرى في العام 1845 (بسبب وباء أصاب المحصول)، خاضوا المحيط إلى الضفة الأخرى لكي يفكوا عن بلادهم أسر الجار الجائر.
فقد تعلموا أن انتصاراتهم في مواجهتهم مع الإنجليز ستبقى موضعية، ولن تصبح دائمة بسبب أخطاء التاريخ والجغرافيا. تقول إدنا أوبراين: “كان الإيرلنديون دائما يصلون إلى شفا الانتصار، وإذ بالقدر، العدو النشط، والتحرك الاعتباطي، والإرهاق، أو الخيانة الداخلية تغيّر مجرى الأحداث”.
ذلك الخروج الكبير، هو ما أورث إيرلندا عظمائها في الأدب والشعر: جيمس جويس، ووليم باتلر ييتس، وشيموس هيني، وجون هويتو وتوماس كينسيلا، وجون مونتاغيو، وجوزفين هارت.. وقائمة طويلة من المبدعين، رسموا لإيرلندا حضورها، الذي ظل لحقب طويلة يصطك تحت صليل السلاح والمجازر الطائفية التي تتناسل كل يوم أحد، حينما يذهب المؤمنون إلى كنائسهم المتصارعة..
مشكلة إدنا أوبراين في كتابتها عن بلدها، أنها تعرف تاريخه جيدا، وخاضت آلامه حتى الرمق الأخير.. لكنها لم تغفر له قدرته على امتصاص الألم، لكي يستمر في الحياة.


adelk58@hotmail.com