واحدة أخرى من عطايا المصادفات! أن يظهر لقاء صحفي مع غيلان بكر أبناء السياب بعد أيام قليلة من كتابة مقالي الأسبوعي للثقافي عن الانتشار من البيت إلى العالم وأخذي السياب مثالا للصعود بلا سلالم دعائية ومجاملات وعلاقات شخصية من جيكور القصية وبويب النهير الضحل وصولا إلى عالمية نادرة لن تتكرر. يتحدث غيلان متألماً عن تخليد أمكنة القرية عبر شعر السياب مقارنة بالقليل الذي بقي شاخصا من بيت جد والده الذي تملكته الدولة منذ قرابة خمسة عقود فناله الخراب والهجران، وظل وعد تحويله إلى متحف سرابا زائفا، بينما خلد وجوده الشعري في قصائد السياب لا سيما (دار جدي) و(شناشيل ابنة الجلبي)، أما الطبيعة فلم ترحم بويب المشتت في سواقٍ صغيرة بين غاب من النخيل وبيوت قرية جيكور الواطئة بجدرانها الطينية وسقوفها الواطئة. وإذا كان غيلان محقا في أسفه على ما آلت إليه ملامح جيكور ودار الجد فهو مخطئ حين يؤمن على تشخيص الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد بقوله إن السياب أكل نفسه وأكلته عبقريته أو موهبته، فهي أولا إعادة صياغة لمقولة عربية قديمة عن نابغة صغير اختبره الكبار فقالوا إن علمه سيأكل عمره، وكأن الجهل هو التقويم الصحيح وضمان لبقاء الإنسان، ويصبح العلم خروجا يودي بصاحبه إلى الموت، وهكذا قيل عن السياب ما قيل تعليلا لموته المبكر مريضا، ولو كان الأمر كما ردد غيلان عن عبدالرزاق عبدالواحد للسؤال عن عبقرية المعمرين من الشعراء ولماذا لم تأكل مواهبهم أعمارهم، وعن تفسير بقائهم بغياب تلك العبقرية بالضرورة!؟ أما رد ذلك إلى حساسية الشاعر المفرطة وتوتره وتأثره وطبيعته الانفعالية، فهي أيضا بعض أحكام الوارثين ووجهات نظرهم وانطباعهم اليومي العابر. ولم يكن جديرا بالابن أن يجادل في حساب عدد حبيبات والده فالأمر خاص به وبشعره، فهن لسن أربعا كما قال مقللا من تصريح السياب نفسه في قصيدة أحبيني (عشقت سبعا..) وربما ليس العدد كما تداعت ذاكرة السياب فيكون وجود الحبيبات شعريا فحسب، ولا حق لورثة الشعراء أن يحصوا حبيباتهم، رغم أن غيلان كان عادلا وصادقا حين دافع عن حقيقة تجربة السياب العاطفية وجديتها لا كما أوحى سؤال الصحفي له من أن تلك العلاقات العاطفية ليست تجارب حب حقيقي بل افتراضات وهي تهيؤات من طرف السياب ورد غيلان على هذا الادعاء الذي تكرر لدى دارسي حياته خاصة يتلخص في حرارة حديث السياب عنها وتخليده لها في شعر (عذب) لا تصنع عذوبته افتراضات وتهيؤات بل تجربة حقة حب صادق. جيكور شابت يقول السياب في أحد انعكاسات قريته الشعرية لكنه يدعوها لتقوم من رماد السنين، كأنما لتكون قيامتها شاهدا على قيامته هو نفسه استكمالا لاحتفائه بقيامة المسيح ولعازر وانبعاث طائر الفينيق من رماد احتراقه..