يقول دستويفسكي: “الشرط الجوهري الأول للوجود الإنساني هو أن على الإنسان دوماً أن يكون قادراً على الانحناء أمام شيء ما لا نهائي في عظمته. فإذا كان الناس محرومين من العظيم اللانهائي، فلن يستمروا في العيش بشكل طبيعي”.
لذلك فعندما تصبح عائلة ما، كمحصلة لوضع اجتماعي معين، “مختلَّة وظيفياً” الأب مدمن مخدرات ونزيل أحد السجون، والأم مطلقة أو تعاني الأمرين من أجل توفير مستلزمات الحياة في أدنى متطلباتها، وقد تلجأ في هذه الحالة للجمعيات الخيرية أو للاستجداء، ونادراً ما تلجأ للعمل خاصة حين يكون بسيطاً أو متدني القيمة، هنا يشبُّ أطفال ينقصهم الأمان واحترام الذات فمن هو هذا المربي الفاضل الذي سيعتني بتربية قيم احترام الذات في هكذا ظروف؟ وحتماً سيكونون فريسة سهلة لـ”أزمة المعنى والإحساس بالخواء” الذي يعبر عنه بأشكال مختلفة من العنف واللامبالاة والافتقار إلى قيمة الانتماء، والاستعداد للتخريب وتعنيف الآخرين بكافة أشكال العنف.
هذه النتيجة تفسر جانباً من سلوك العنف الذي يجتاح الكثير من المدارس منذ فترة، وان النتائج التي أعلنت في دبي مثلاً حول فشل عشرات المدارس في تحقيق معدلات ونتائج ممتازة دليل على فشل المدرسة في ملء الحيز الأكبر من وجدان واهتمام وقناعات طلاب اليوم، الذين يجدون في البلاك بيري والإنترنت والعلاقات الحميمة الخاصة البعيدة عن رقابة الأهل مجالاً أكثر رحابة في تحقيق درجات عالية من الإشباع لديهم، إشباع لكثير من الرغبات والاحتياجات الملحة جداً التي لا تجد تلبية حقيقية ومتفهمة داخل الأسرة.
وليس الأسرة المختلة وظيفياً فقط هي التي تنتج أطفالاً ناقصي الأمان ويفتقرون إلى احترام الذات والشعور بالانتماء والتقدير، فحتى الكثير من الأسر شديدة الثراء ممن مزقها الترف، وباعد بين أفرادها وأسس لكل شخص فيها عالمه الخاص واستقلاليته المبالغ فيها، حتى هذه الأسر تعاني من الأمر نفسه وأحياناً بدرجات أشد، حيث تتبدى حالة من ازدواجية الشخصية لدى الأسرة كفكرة هنا وككيان متكامل ، حين تطرح نفسها في المجتمع على أنها كيان متطور ومتحضر ومساير لمتطلبات العصر المظهرية، وعليه فإن فكرة احترام أو تقديس استقلالية كل فرد وكل ابن وابنه تصبح معنى مرادفاً هنا لرقي الأسرة في المجتمع، وعلى خط متواز فإن هذه الأسرة تحتاج دائماً للتأكيد بأنها من الأسر المحافظة والمتمسكة والـ..... !!!
إن خبراء التربية وأهل الأمن وأساتذة السلوك الاجتماعي والذين على تماس مستمر مع المؤسسة التربوية الرسمية (المدرسة) يؤكدون أن الوضع القيمي والأخلاقي ليس على ما يرام وأن ظواهر أو إشكالات أخلاقية معقدة صارت واقعاً معاشاً في كثير من مدارسنا للأسف، وأن يوميات هذه المدارس والمدرسين فيها تحكي حالات وظواهر سلوكية غير مبشرة أبداً ولا تستدعي لا السكوت ولا ردات الفعل الآنية أو التجاهل، بل إن الأمر يتطلب تفكيراً علمياً عميقاً للوصول إلى مفاتيح تربوية ضرورية بحثاً عن مخارج وحلول بأسرع وقت ممكن.
الخطورة لا تكمن في تدني المستوى العلمي فقط، فهذا محصلة طبيعية لتدنٍ آخر أشد خطراً على مسوى منظومة السلوك والأخلاق والقيم والعلاقات الاجتماعية وهذا يحتاج الى استنفار سريع، على اعتبار “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا” !!


ayya-222@hotmail.com