ولد بتونس وتوفي بالقاهرة، ولكن ظلت عبقرية ابن خلدون ماثلة يستوحى منها البشر ما خلفه من علوم ومن إسهامات ظلت تنير الإنسانية، وتخط موسوعة تجلياته الفكرية والثقافية لتسهم بشكل واسع في علوم البشر وطبائعهم، وينحو بك كتابه “المقدمة” في بلورة الحضارة والعمران عبر آرائه الثاقبة والتي أراد بها أن يحصن البشر من اختلال الموازين الحياتية والاجتماعية والسياسية، وأراد بأن يفقه البشرية في ظواهر تتعاقب، ولأن المجتمعات العربية تسبح من خلال مرحلة صعبة وتخوض عبر شلالات سياسية وثقافية لا يعرف عقباها، فإن ابن خلدون جسد مفاهيم بات يستدرك بعضها الوطن العربي الكبير الآن، فابن خلدون تحدث عن السلطة في أي مكان وفي أي عصر إذا ما انتهجت البطش والظلم، وإذا ما ذل البشر فإنهم يقابلونه بالكذب والخذلان، وتحدث أبن خلدون في كتابه عن هيمنة واستبداد السلطة وفسادها وخطورة ذلك على المجتمعات، واجمع ابن خلدون ما يمكن أن تقدمه السلطة والملك للمجتمعات، وهي حزمة من الأعمال يمكنها أن تضيف للمجتمعات وللرعية الكثير من مصالح، والمح ابن خلدون، وحذر من انشغال السلطة بممارسة التجارة، وقال إن عواقبها كبيرة على الشعوب وتمهد للفساد، فمن يستعرض الأحداث الماثلة وتجلياتها وما سطره ذلك العبقري الجميل فإن كثيرا من السياقات العريضة تطل علينا، فمن العلوم التي كان أبن خلدون يستشرف بها التاريخ القادم والحضارة القادمة، فلم يبشر بالعلوم الاجتماعية وحدها، بل رسم معالم الاقتصاد والبناء العمراني. وفي سياق الاقتصاد وضع كتابه الأسس والتحليلات الواسعة عن علوم الاقتصاد وجوانب مهمة ارسى للبشرية بها علوم الاقتصاد الحديث ولكن لم يستفد العرب بالذات لا من علوم وثقافة ابن خلدون في الإدارة والسياسة، ولا من الأسس الحضارية التي نهل منها الغرب وجسدها في نهضته، سواء كانت العمرانية أو الاقتصادية، وبذلك كان بناء الإنسان على أسس ثقافية رصينة. والغريب إن العرب اخذوا يلتفتون الى أخطاء ابن خلدون في بعض آرائه وتحليلاته، تلك الأخطاء التي تبدو قليلة في خضم ما قدمه من علوم للبشرية. ويصنف المؤرخون ابن خلدون كأهم عالم مسلم لما قدمه من مزايا الدولة الحديثة وتحول أسسها من البناء إلى الاستقرار وتوسع قاعدة الدولة بانضواء كافة عناصرها وفئاتها تحت لواء واحد ونفي العصبية التي قامت عليها الدولة نفسها، وأطّر الأساليب الإنتاجية لكنه أومأ إلى كثير من المفاهيم الخاطئة ولولاها لظلت عبقريته شامخة وتصوراته ماثلة بصفاء ونقاء، والأهم من ذلك العصر الذي بزغ فيه ابن خلدون وهو عصر التحول الحضاري والحقبة التي تقوم على التأسيس العلمي ما بين حضارات نأت وحضارات قادمة. وبعد فشل بعض التجارب السياسية والاقتصادية التي توجت المجتمعات العربية في سياق الدولة الواحدة لعقود من الزمن، فإنه حان الالتفات إلى النماذج التي قدمها ابن خلدون في المقدمة، وحان وقت تجسيد الأسس التي تناسب العصر.