الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طقس غجري صارخ

طقس غجري صارخ
7 ديسمبر 2011 21:09
استحضر مفلح العدوان في مسرحيته “عشيات حلم” شاعر الفقراء والمهمشين الأردني مصطفى وهبي التل “عرار” وقصائد دفاعه عن المظلومين وهجائه للنظام الطبقي والتحالفات السياسية العربية والأجنبية التي مكنت عصابات صهيون من اغتصاب فلسطين وتأسيس ما عرف فيما بعد بـ”إسرائيل”، فدفع الثمن وقدم تضحيات لموقفه ولقي في حياته معاناة صعبة تمثلت في السجن والمطاردة والنفي. ورغم أن تجربة عرار قدمت على المسرح الأردني مرتين الأولى للمخرج خالد الطريفي “عرار” 1997 والثانية لعبدالكريم الجراح 2002 بعنوان “عرار نشيد الصعاليك” إلا أن مفلح العدوان بصفته كاتبا وفراس المصري مخرجا وفّقا في اختيار الوقت المناسب لعرضهما الذي قدم مع ثورة الشباب العربي واستطاعا أن يقدما عرار برؤية جديدة ومعاصرة لما يجري حولنا من ثورات وروح ومشاعر مختلفة لشاعر كان ينادي بالحرية والمساواة وتذويب الفوارق بين طبقات المجتمع إسقاط حلف بغداد وكشف التعاون مع مغتصبي فلسطين. وقد وصفت النقدة المسرحية البحرانية كلثوم أمين “عشيات حلم” بأنها تعبير عن انتفاضة الشعب للمطالبة بحقه في حرية التعبير، فيما وصفها المخرج الأردني فراس الريموني بطقس مسرحي برؤية مخرج مشعوذ وممثلين متصوفين. ومن وجهة نظر العدوان فالمسرحية تنحاز لعرار كروح متمردة وتبين أن معارضته للفساد والظلم وخاصة الذي يوجه لشريحة اجتماعية بعينها سر خلوده. والمتابع للعرض يكتشف أن عرار الذي عاش بين 1899 و1949 سبق شباب الميادين العربية الذين يطالبون بالحرية والعدالة بحوالي سبعة عقود، وهو المبادر بهذه المطالب منذ العشرينات من القرن الماضي بقصائده التي التحمت مع هموم الوطن والناس على اختلاف طبقاتهم وأطيافهم الاجتماعية والسياسية. كما ان العرض المسرحي منفتح للتأويل تغزوه الإسقاطات، فالطاحونة أو الرحى تسحق الانتظار المؤلم الذي يستهلك العمر “ترى لماذا تأخر.. ألا يدري بأننا أرض عطشى لرذاذ مطره”، و”النساء يطحن عمرهن في القلق والتوتر والانتظار.. له جدوى أو لا جدوى”، ونثر الورق على خشبة المسرح وكأنه يريد أن يحرضنا على أنه لا قيمة للكلام لينتهي بنتيجة مؤلمة ومؤسفة بأن الذي ناضل ضده عرار الشاعر المتمرد الرافض لقيم تفرق بين البشر الحالم بالحرية والعدالة ما زال مستمرا، فظلم الفقراء قائم والفوارق الاجتماعية تزداد اتساعا مع مرور الوقت وفلسطين التي نافح عنها ما زالت مستباحة ترزح تحت الاحتلال. قلق الصمت وفي ندوة تقييمية لمسرحية “عشيات حلم” ضمن فعاليات مهرجان المسرح الأردني الثامن عشر تساءلت المخرجة البحرانية كلثوم أمين: هل كان العرض تلاوة لديوان شعر “عشيات وادي اليابس” لهذا الشاعر الذي أقلقه الصمت وكان شاهدا على الظلم والفساد أم هي مسرحية نقوش حورانية وإسقاطات المخرج فراس المصري على زمن نحاول أن نشق فيه طريقنا باحثين عن عرار العصر الحالي لينطق بما خشينا أن تنطق به الأفواه؟ فمنذ اللحظة الأولى من دخولنا المسرح تتسابق حواسنا في استيعاب ما يجري على الخشبة المكشوفة إذ تملأ الفضاء رائحة القهوة ومضارب الغجر، وتدور رحى لتطحن وتجرش حبوبها، وعلى حكاية عزف في حكاية الشاعر الشخصية/ الرمز التي كلما زادت عنها الأقاويل كلما زاد الغموض حولها، فمن واقع جنون سكرها وانطلاق عذاباتها يتجلى عرار هاربا صارخا ومعبرا عن القهر والفساد والانصهار في حب الوطن. وتقول كلثوم أمين في مداخلتها أنه في دوران الرحى حوار يتساءل هل سيأتي؟ فهو المطر الذي سيعيد الحياة للأرض “حوران” التي فقدت خصبها وتطاير فيها الغبار والتراب وامتزج بالبشر، فمن خلال أشعار عرار وحالة الانتظار نجد أن في حضور سعاد (سهير عودة) و سلمى (أريج الجبور) تلك الأنثى التي هدها الوقت وأصابها اليأس والأخرى التي تتفجر عشقا بعرار فتحمله في داخلها راغبة في عرارات لكل زمان ومكان فهي التي تنطق عنه في غيابه وتتلبسه في حضوره فما أحوجنا اليوم إلى عرار. مسرح الفرجة وترى كلثوم أمين أنها وجدت أمامها مسرحا للفرجة ملأت سينوغرافيا العرض الخشبة التي قام المخرج باستخدام كل ما فيها من إكسسوارات، فمن المهباش الذي وضعه في توازن هندسي إلى الرحى والفوانيس التي اشتعلت في أكثر من غرض، خاصة رحلة البحث عن عرار وإمكانية حضوره. وتقول: كنا في حضرة عرار المخرج والممثل ولم نكن في حضرة عرار المقولب، فقد أدى الفنان أحمد العمري دوره بعرار جديد واستخدم طريقة خاصة جدا في إلقاء أشعاره، فلعب على نبرة الصوت وإظهار حالة المشاعر الداخلية من غليان وغضب ورفض لما يجري عبر تطويل البيت الشعري وتقطيعه أو تقصيره. ومن وجهة نظرها فقد كان الطرق على الجرار هادفا في إيقاظ الحضور، ونجح المخرج في استخدامه لهذا الطرق والوقفات فكأنها لحظة إعلان عن المطالبة بحق الكلمة والتأكيد عليها إذ كان هناك توافقا جميلا بين الإيقاع والحوار والمشاعر. أما نثر الأوراق على خشبة المسرح وكأنها بلا قيمة فيعطي المشهد دلالة أخرى إذا أسقطناه على حاضرنا فكأنه إلقاء لمناشير سياسية تدعو إلى انتفاضة الشعب للمطالبة بحقه في حرية التعبير. حفنة تراب أما المخرج فراس الريموني فوصف “عشيات حلم” بأنها جرار من صلصال وفخار تخلق إيقاع الشاعر المغروس في حفنات التراب الشيحانية ـ نسبة إلى منطقة شيحان جنوب الأردن ـ والإربدية ـ نسبة لمدينة اربد شمالا ـ طقس استرجاع أرواح الأجداد الذائبة في الوجدان.. رحى تدور ومهباش يصهل بين خرابيش “خيام” العاشقين برائحة القهوة.. أضواء خافتة تتلألأ بفوانيس الحصادين وغرابيل وأطباق قش تحمل سنابل قمح الفقراء.. غجريات يرقصن بلون قوس قزح وعصي تطرق الصوف المبشر ببيت الشعر وخربوش يحرر العبد فالكل مساواة لا عبد ولا أمة.. شاعر يصهل كالحصان وراء المنفى والحبس والقيد وكلمات مبعثرة جمعها يخلخل عرش السلطة. وقال: إنها طقس مسرحي برؤية مخرج مشعوذ وضع تمائمه بين الصالة والمنصة فتآلفت المشاعر والحس فنهض الوعي الجمعي والوجداني ليشتبلك ويعانق ويتواصل الفريقان في حلقة واحدة.. ممثلون متصوفون فهذه سهيرعودة تدندن وتشدو وأريج الجبور تهمهم تدير الرحى وأحمد العمري يقول الشعر.. اليوم فقط نهض عرار بطقس غجري يليق بنظمه القصيدة وفكره السياسي وحبه للوطن والحرية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©