نلهث وراء الأيام التي تمضي أسرع منّا ولا نكاد نلمس سوى أطراف ثيابها المتسربلة في الريح.. ومن عادة الأيام أنها لا تنتظر أحداً. وقطارها يمضي بلا محطات وليس له نهاية. ونحن الحفاة الواقفين على رصيف الوقت لا نملك أقداماً طويلة تسعفنا على الركض بسرعة لنتجاوز الزمن ولنقفز بسهولة فوق حواجزه الكثيرة، ولذلك نقع جميعنا أسرى الانفلات وعدم السيطرة حتى على أنفسنا ونحن نرى قطارات الحياة تمر مسرعة أمامنا ونريد أن نتشبث في أحدها كي نصل الى مكان جديد دائماً ولكن بلا جدوى.

قلة فقط من المتنورين يدركون أن الإنسان يملك قدرة التوقف والتهدئة وإعادة شحن ذاته. وقلة قليلة أخرى تدرك أن الطاقات المخبوءة في الذات الإنسانية كثيرة ومذهلة لكن ينبغي اكتشافها ومعرفة أسرارها لكي نخرج بها من قوانين المادة والزمن والمكان ولنصبح أحراراً وأسياداً على مصائرنا. ومن بين هذه الطاقات حواسنا التي تحتاج الى تطهير وإعادة اكتشاف رغم استخداماتنا اليومية لها. لأننا بالسيطرة على الحواس الجسدية نستطيع أن نصعد في أول سلم للارتقاء بالروح. فالإذن عندما تتطهر من سماع النميمة ويتم تدريبها على الإصغاء الى صوت الطبيعة والى السر المكنون في الصمت فإنها تتحول الى بوابة للدخول في عالم الاكتشاف الأعمق لمعنى الأصوات في هذا الكون.الأصوات التي تحمل شحنات عالية من المعنى حتى لو كانت هذه الأصوات غير مفهومة.

وإدراك الأبعاد الصوتية وامتلاك فن الاستماع اليها يعد مهارة منسية لدى عامة البشر، والأغرب أن الجميع بإمكانهم تدريب حاسة السمع ورفعها الى مستويات مرهفة، الا أن الجري وراء زوائل الأشياء والسماح للأصوات المزعجة بمحاصرتنا يمنعنا من الولوج في هذا البعد المهم ويبقينا أسرى الضجيج والفراغ.

يبدأ تدريب الحواس بتطهيرها أولا من الرذائل، فلا نسمح للعين باختلاس النظر ولا نفتح بها بوابة الحسد الذي ينبع من الخوف والغضب الداخلي المخزون في القلب. وقد يصبح فعل إغماض العينين أكثر قداسة من تفتيحهما في غير مكانهما. ومثل هذه القوانين الأخلاقية تنطبق على بقية الحواس فلا ينبغي أن يتذوق اللسان المضرات ولا أن تمتد اليد الى نهب الغنائم من أفواه الآخرين. ثم بعد الارتهان الى هذا الشرط الأخلاقي الأول والصعب، نلج الى المرحلة الثانية أو الشرط الثاني الأهم وهو التدرب على الارتقاء بتعويد العين على معانقة الضوء واكتشاف جماليات الطبيعة والكون والتلذذ بالنظر اليها. ثم تأتي المرحلة الثالثة عندما تزول في نظراتنا الحدود التي ترسم الأشياء فلا نعود نرى سوى النور الصافي يملأ الكون وكل ما عداه ظلام ينبغي أن ينقشع، ويتردد في أسماعنا صوت الاطمئنان وتصبح الكلمة على اللسان نبعاً يروي عطشنا الأزلي للمعرفة.

khozam@dmi.ae