ظل فقيراً مجالداً الحياة، صابراً في شتاءات المدينة البعيدة، راكضاً خلف الأشياء قليلة التكاليف، وبالكاد يجبر عينه على الرضا بها، قانعاً في صيفها بالبعد، وتقريب المسافات، والحلم ببيت في قريته، وبزوجة يمكن أن تشاطره سنوات ما بعد الكد والغربة، ويمكن أن تهديه صغاراً يكبرون مع حديقة المنزل، وسيطوّعها أن تتوائم مع أمه التي سيبني لها غرفة يمكن أن تراقب منها البيت والزوجة والأولاد دون أن تتحرك كثيراً في خريف عمرها، كان في غربته التي حرق لها ومن أجلها الكثير: أرضاً كان يحرثها الأب، رهنها مقابل تذكرة في باخرة قديمة، وحقيبة ملابس تفي بغربة لا يتمناها أن تطول، ومال قد يكفي البيت لشهور، ويكفيه ساعة ما يكفهر وجه المدينة التي لا يعرفها، وذهباً لم تبخل به الأم، لكنه أبكاه، لأنه شعر وكأنه مرطه من عنقها، وعدها أن يأتي لها بأثمن منه، فتبسمت له الأم دامعة: أثمن منه أنت، فارجع ولو كنت حافياً عارياً، وانس كل شيء وتعال حين يتعبك المجيء!

كان طيباً حد أنه لا يتذكر الشر، وكان مسالماً يهرب من أشياء كثيرة يتعثر بها في طريقه، كان النهار يأكل من عمره، وكان هو يغبش له مثل كل العمال الذين يقذف بهم البحر إلى مدن شمالية، عيونها رمادية، وقلبها لا يعرف الشفقة على الفقير، تجدهم يرتجفون من برد الفجر، ومن أكل لا يدفئ الصدر، ومن أعمال تنتظرهم في مساحات عارية، وتحت ريح أشجار تتلامع غصونها من مطر تهامل فجأة أو ندف ثلج ظل يثقلها طوال الليل، وصرخات وكيل رب عمل مرهق ذاته من سماكة الملل الجاثية عليه.

كان “سي العربي” يعارك اللقمة، ويتوجع من تجاعيد الليل، خاصة حين لا يسمع إلا أنين وتفزز رفاقه العمال في نومهم الجائع، يكاد يبكي أمه ورائحتها التي تشبه ثرى الأرض، وأخته الصغيرة التي تكبر بعجل بعيداً عن عينيه، لا ينزعه من تلك التخيلات إلا رسائل تصله متأخرة، ويقظة صبح لا ترحم رجلاً غير متعاف أو يمكن أن يذهب به التأمل لمكان بعيد غير مطرح الرزق.

عشرون عاماً إلا قليلاً أضيفت لعمر “سي العربي” كانت كفيلة أن تقول له ارجع، ويكفي ما تتحزم به من نقود للأرض، ولزواج الأخت، ولكفن يليق بأم سمحت لابنها بغربة كانت قاسية عليهما، كان ذلك نداءً أخيراً ليركب باخرة جديدة، ويقطع كل حبال الرجعة، ماداً خيوطاً باتجاه مدينة يحبها، وقرية يفرح بها، وأناساً يمكن أن ينام ويشعر معهم أن الكون كله يحرسه.. لكن سارقاً في أول حياته المهنية قطع ما يتحزم به “سي العربي” وقطع الخيوط الممتدة لمدينته، وسرق منه عمره الذي مات بعده “سي العربي” بقليل!


amood8@yahoo.com