منذ سنتين تقريباً أهدى إلي قارئ كريم مذكرات الروائي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز التي نشرت في جزأين تحت عنوان “عشت لأروي” وكتب لي ذلك الصديق هذا الإهداء وعلى غلاف الكتاب الداخلي كتب لي ذلك الصديق هذا الإهداء “ صديقتي، أمنياتي أن تتمتعي دائماً بذاكرة طيبة “ ولقد تأملت الإهداء طويلاً لأنه أعجبني ولأن الذاكرة الطيبة نعمة كبيرة في زماننا هذا حيث يوجد ألف سبب لإضعاف الذاكرة ، أما ماركيز نفسه فكتب في الصفحة الأولى هذه العبارة “ الحياة ليست فيما يعيشه أحدنا ، وإنما هي ما يتذكره وكيف يتذكره ليرويه”. من كلمات ماركيز الملأى بالفلسفة والحكمة عرفت مغزى إهداء ذلك الصديق، وأيقنت أن التمتع بذاكرة مخلصة يوازي التمتع بصحة جيدة، وغالباً ما يتمنى لك محبوك وأصدقاؤك المتعة الثانية أعني متعة الصحة، لكن نادراً ما يفطن أحدهم إلى أهمية الذاكرة المخلصة ، فإن تخلص لما عشته يعني أن تحبه ، أن تحن إليه، أن تتذكره بشفافية دون أي محاولة لسهو مقصود أو نسيان متعمد لبعض التفاصيل. أن تمتلك ذاكرة مخلصة يعني أن تتذكر ما عشته بكل تفاصيله السارة والجارحة ، كما عشتها فعلاً لا كما يريد الآخرون أن يعرفوا أو يسمعوا أو يتسلوا ، فكتاب الذاكرة هو كتاب العمر، وأي كشط في أوراقه يلغي صدقية التدوين تماماً ، خاصة عندما يكون الشخص الذي يشحذ حد ذاكرته روائياً في حجم ماركيز ! ولقد أهدى ماركيز كتابه هذا لصديقه القديم الرئيس فيدل كاسترو الذي علق بدوره على المذكرات بعد قراءتها قائلاً “ إن ماركيز يقوم في هذه المرة بتقديم بعض من نفسه بصراحة ، ببراءة، وبحميّة تظهره مثلما هو عليه في الحقيقة ، رجل بطيبة طفل، وموهبة كونية ، رجل مستقبل لا نستطيع إلا أن نشكره، لأنه عاش هذه الحياة كي يرويها “ ! تدهشك التفاصيل الصغيرة في سرد ماركيز، الواقعية الساحرة، والاعتزاز بأكثر الأمور دقة وعبوراً، هو لا يترك شيئاً أبداً ، يحكي كل شيء عن أمه وأخوته، ودراسته، وبداية فرحته القصوى عندما نشرت له جريدة «الاسكاتادور» قصته الأولى بعد تسعة أشهر على تخرجه في الثانوية في ملحقها الأدبي “نهاية الأسبوع”. هذا الطالب الفقير الذي سيكون بعد سنوات أشهر كتّاب أميركا اللاتينية والعالم، وأحد أشهر من حاز جائزة نوبل للآداب! وحين كتب قصته الثانية ذهب بنفسه إلى الجريدة التي نشرت له قصته الأولى، آملاً في أن تنشر كسابقتها لكنه يقول “ حدث ذلك في يوم الثلاثاء، ولم أكن أشعر بأدنى قدر من القلق على مصير قصتي القصيرة، لكنني كنت واثقاً من أنه في حال نشرها لن يكون ذلك في وقت قريب”! بعد أسبوعين من التسكع في المقاهي، دخل ماركيز إلى مقهى الطاحونة واصطدم ـ كما يقول ـ مواجهة بعنوان قصته “الاستسلام الثالث” على كامل عرض الاسكاتادور، الصدمة الحقيقية هي أن القاص المبتدئ في ذلك الوقت لم يكن يمتلك خمسة سنتات لشراء الصحيفة التي نشرت على غلاف ملحقها عرضاً كاملاً لقصته، وهذا كما عبر عنه ماركيز، هو الرمز الأكثر جلاءً للفقر ليس ثمن الصحيفة هو ما لم أكن أمتلكه، بل ثمن متطلبات أساسية في الحياة اليومية تكلفه خمسة سنتات فقط كتذكرة الترام، الهاتف العمومي، فنجان القهوة، مسح الحذاء.... ... وتستمر ذاكرة ماركيز في إخلاصها لما عاشه صاحبها !