أول مرة أتعرف على بلد جميل وبعيد وساحر ومختلف المغرب، كان في عام 1978 في رحلة مدرسية، وأيامها كان الوصول للمغرب من المشقة والتعب الكثير، فقد ركبنا الطائرة من أبوظبي إلى عمّان، ومن عمّان إلى باريس، ومن باريس إلى مطار محمد الخامس في الدار البيضاء، والذي أعتقد أن اسمه كان النواصر، ومنه استقلينا حافلة للوصول إلى الرباط في مقر إقامتنا في فندق افتتح حديثاً يومها اسمه “هليطون” وتعجبنا يومها كيف يقلب المغاربة التاء إلى طاء، لكن العجب زال حين رأينا مكتوباً على سيارة الأجرة “طاكسي صغير” لقد ظل هذا الفندق محطة سكني في زيارات لاحقة، حتى سكنته قبل عامين، وقد تغير اسمه، لكنه ظل مميزاً بشيئين من أعوام السبيعنيات حتى يومنا، حديقته الغناء، وتلك الباحة الداخلية التي تشبه بيتاً أندلسياً، كان المغرب في تلك الفترة، وخاصة لمثل من في أعمارنا مجرد حديث في الجغرافيا والتاريخ، فالاتصالات كانت شبه مقطوعة بين شرقنا ومغربنا، لكن الحقيقة والتي ستبقى معي كلما زرت المغرب أنني أراه كقطعة من الأندلس حالمة، فقد كنت أعشق الحياة وأتمناها في ذلك الزمن من التاريخ، وفي المغرب تجلى ذلك كلما رأيت رجالاً يتلفعون بالبرنس الوبري والقب، وينتعلون البلغة، وحديثهم وخطوط كتابتهم أقرب إلى عربية مدارس تعليم القرآن والحوزات الدينية، وسحنات وجوه الرجال منهم أقرب إلى زمن المرابطين، وأرض العدوة الأخرى في الزمن الغابر، أسواقهم الشعبية وكأنها أقرب إلى أسواق وعرصات الماضي البعيد، الدباغة والجلود، والأقمشة البلدية المنسوجة، الصفّارين وسوق النحاس، والعطارين، وبائعي التوابل، ذهلت عند تلك النقطة المتعلقة بتجميد الزمن قليلاً، وسعدت أن أجول في الطرقات والزنقات الشعبية، وتتصبح ببائعة النعناع العجوز المستندة على الجدار، وتدعوك رائحة المنثول، ورطوبة الأرض المرشوشة إلى مزاج جديد، وهروباً من الفنادق الباذخة إلى أماكن فيها تعب الناس، وحراكهم اليومي، قد تستطيب لحم الشواء في محل صغير، يقصه من ذبيحة معلقة، ويشويه أمامك، مع خبز الدار، وكأس شاي مغربي بالنعناع، وتمد رجلك كوالي المدينة الشبع، قد تتناول فطورك المغربي الشهي كالذي تعده يد الحاجة أم رشيد، المسمن والبغرير بالعسل، وحريرة الصباح مع حبة تمر وحليب، وحلوى قرن غزال، فطور كهذا كان يكفيني أن أمشي طوال النهار، دون شكوى أو تعب أو ملل، في تلك الرحلة الجميلة والتي استمرت شهراً، وبقيت حيّة في القلب، زرت مدناً كثيرة في المغرب من طنجة وتطوان والناظور، وشفشاون إلى فاس ومكناس ومراكش والدار البيضاء، وبني ملال وأغادير، وعبرت صخرة جبل طارق، بعبارة تسمى ابن بطوطة، ووصلت الخثيرات أو الجزيرة الخضراء في بر الأندلس، وأنا بين شهقتين، شهقة وداع المغرب، وشهقة الفرح بإسبانيا! ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com