هُناك علاقة جذرية بين اللغة والنفس، وتتمثل في أشكال من الكلام، فينطلق ما في النفس على شكل كلام بأحكام من تقديم وتأخير وحذف وذكر، ومن دون هذه الأحكام وأنظمة اللغة وقواعدها والتي تسمى (النحو) تصبح قواعد النحو هذه «ركاماً وحطاماً، لا حياة فيها ولا طعم لها» كما يقول «بالمر». - فاللغة مرآة النفس، تعكس ما فيها من خير وشر، وجمال وقبح، وصدق وكذب، وقسوة وحنان، وظلم وعدل، ودنو ورقي، وحقيقة وخيال، وكل المعاني هذه تظهرها اللغة. عبرت اللغة العربية خير تعبير عما يجول في النفس واستوعبت ما يدور في النفس «العربية» ووضعت اللغة في أجمل القوالب، وألبست أبهى الحلل، ولن تفنى كنوزها يوماً بعد يوم، ومن أسباب رقي اللغة وسلاستها، ودخولها وتقبلها لدى تعلمها أنها تقع في النفس قبل العقل، فها هو الأخطل يقول: لا تعجبنّك من خطيـب خطبةٌ حتى يكون مـع الكــلام أصـيلا إن الكـلام لفــي الفــؤاد وإنما جُعِلَ اللسان على الفؤاد دليلا فاللغة دلالة على النفس، وتعبير صادق عنها، وكلامنا وحديثنا إنما هو المعاني والمشاعر والأفكار التي تسكن فينا ويطلقها اللسان. وأكثر من ذلك أن المعاني التي نريد أن نعبر عنها والتي تتكون في أنفسنا تترتب في النفس أولاً، وسرعان ما نجدها تنطلق بألفاظ مرتبة تخدم المعنى بغير عناء، فالفكرة تمتطي اللغة، واللغة هنا حاملة الفكرة، خادمة لها، وكلما سما المعنى، ارتقت اللغة، رقي وارتقاء وإبداع اللغة العربية، نتيجة وانعكاس لما في النفس العربية، العرب حتى في أيام جاهليتهم، لم يفقدوا القيم الإنسانية من شهامة، ومروءة، وكرم، وإغاثة الملهوف وغيرها من القيم النبيلة، وما تميز العرب في شعرهم وبلاغتهم، إلا نتيجة لما كان يجول في نفوسهم. واللغة أيضاً ظاهرة اجتماعية، ميدانها الحقيقي المجتمع واللغة دون المجتمع لا قيمة لها، ولا يتصور أيضاً مجتمع بلا لغة، فكيف يتواصل أبناء المجتمع إذا لم تكن هناك لغة يتواصلون بها؟! والمجتمع هو الذي يرتقي باللغة ويصل إلى ما يريده عن طريقها، وفي كنف أبناء المجتمع تعيش اللغة وترتقي، وبواسطتها يتفاهمون ويتواصلون فيما بينهم، ليعبروا عمّا يجول في أنفسهم فهي الرابط: كما يقول حليم دموس: لغة إذا وقعــت على أسـماعنا كانـت لنــا برداً على الأكبـــاد ســتظل رابطـــة تؤلــف بيننا فهـي الرجــاء لناطــق بالضــاد في المجتمعات الراقية تسود لغة راقية، تعكس وجه المجتمع الحقيقي. اللغة العربية كانت وستظل جامعة للعرب كلما تفرقوا، يحيون بها وبهم تحيا، وهي ضمير أبناء الأمة، فلا حياة للناس بلا «العربية» ويجب أن تعبر هذه اللغة عن هموم الناس، سواء كانت نثراً أم شعراً يقول: محمود درويش: قصائدنا بلا لون، بلا طعم، بلا صوت إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيتِ وإذا لم يفهم البسطاء معانيها فلنخلد نحن للصمت.. إسماعيل ديب