لأن الحضارة العربية زاخرة بمنجزات جميلة وبديعة، ولأن العرب في سابق أيامهم كانوا مضرب المثل في تطرفهم في الحب وفي البغض، في الكرم وفي الشجاعة، كانوا قليلاً ما يرضون بحلول وسطى في الحياة، وهذا من طبع الصحراء وسكانها، اليوم سأقص عليكم حكاية جميلة، معانيها كبيرة، ورسالتها عالية، وتمثل قيمة حضارية لأولئك الناس الذين إن حبوا حبوا بشفافية وعذرية وتطرفوا في الحب حتى تسير الركبان بقصص مجنون ليلى العامرية، وفروسية عنترة وحبه المقدس لعبلة، وخوضه الحروب، لكنه يعف عند المغنم، وإن عادوك العرب فعداء ظاهر واضح لا يخجلون منه، بل يناصبونك العداء ويجاهرون به، ومستعدون أن يتطرفوا في العداء ولو دامت حرب داعس والغبراء أربعين عاماً مما يعدون. القصة أن هناك أعرابياً كان موشكاً على الهلاك في تلك الصحراء التي لا نبت فيها ولا زرع، وقد هلك بعيره، وناخت به قواه، وشارف هو على الاحتضار بعد أن نضب ماؤه، وتشقق جلده من العطش، وكاد أن يسلم الروح، وبقي في انتظار فرج يأتيه من السماء، لكنه ظل ينازع الروح حتى أظلمت الدنيا، وغط في سبات قد لا ينهض منه ثانية، لكن مع تلواح ضوء الفجر تراءى له وهو بين النوم والإغماءة وسكرات الموت ظلال قادم تعدو به فرسه، وبالكاد حرك يده، وحين أقترب القادم منه رأى جثة ضمرت وعيوناً جحظت، وعروقاً نشفت، فنزل من على فرسه، وقرب له قليلاً من الماء، حتى أبصر الحياة، وقدم له الخبز مرشوشاً باللبن، ظل يعافيه ويساعده على الحياة، ثم اقتسم معه الأكل بعد ساعات، وطرح عليه رداءه الذي كان يلبسه، وكان في نيته أن يعرج به إلى منازل قومه حيث يسود، ويكرم وفادته، لكن الأعرابي قال: انه يفضل المبيت في الصحراء، وغداً تدبرها السماء، فأبى الفارس إلا أن يشاركه ليله، ويقتسم معه أكله ومشربه، ويتسامر معه، ناما وقبل شقوق الفجر شعر الفارس بتحرك الأعرابي، وصهيل فرسه، فنهض فوجد الأعرابي قد سرق سيفه ليلاً، والآن يشهره في وجهه، طالباً منه أن يعطيه أكله ويركب فرسه، وأنه لن يقتله لكرمه ومروءته معه، فوافق الفارس، لكن طلب من الأعرابي شرطاً واحداً، فإذا وافق عليه حلال عليه ما سرق، وإذا لم يوافق فعليه قتله هنا، فتعجب الأعرابي كيف يشترط الضعيف على القوي، لكنه وافق في النهاية، فقال الفارس: أرجوك أن لا تشيع ما فعلت بي عند الناس، ولا تخبر أحداً بما حصل، فازداد تعجباً ودهشة، فأردف الفارس: لا لشيء فردي ويخص سمعتي، ولكن لكي لا يضيع بين العرب المعروف، ولا يشاع أن المروءة انعدمت بينهم! ناصر الظاهري | amood8@yahoo.com