حفلت المتون العربية القديمة بالحديث عن حرفة الأدب باعتبارها حرفة شؤم لا ينال متعاطيها منها غير النكد والفاقة وويلات أخرى. يكفي هنا مثلا أن نتلفّت إلى محنة ابن المقفع ونهايته الفاجعة. يكفي أيضا أن نعيد قراءة سيرة التوحيدي ومرثياته لنفسه ونوحه على ذاته، وسندرك أن التسمية لم تكن مجرّد تهويل أو تفخيم للرزايا والمحن. بهذا يشهد المعري إذ يجزم قائلا: “ولم يَزَلْ أهل الأدب يشكون الغيرَ في كلّ جيل، ويُخَصُّون من العجائب بسجْل سَجِيل. إنهم أهل صناعة مَجْفُوَّة. وأحسب أنهم والحرفة خُلقا توأمين”. غير أن الناظر في تاريخ الأدب في الثقافات الأوروبية يلاحظ أن الشؤم تعقّب خطى العديد من الأدباء وملأ بالرزايا أيامهم لكنهم نالوا الاعتراف بالفضل بعد ذلك. هذا ما تشير إليه مؤلفات العديد من الكتاب ومنهم الكاتب النرويجي كنوت هامسون Kn t Hams n ولا سيما روايته الأولى “الجوع” التي نشرت سنة 1890م، ففيها صوّر حجم العذابات التي ملأت بالويل أيامه قبل حصوله على جائزة نوبل سنة 1920. تؤرّخ الرواية لمحن الكاتب نفسه. وهي من هذا المنظور تدخل في باب السيرة الذاتية. لكنها تنجح في قراءة الجوع باعتباره قدرا ومصيرا. فالراوي يكتب بعض المقالات في الصحف اليومية ولا ينال على ذلك ما به يتمكّن من سدّ رمقه. لذلك تآخى مع الجوع، وصار يمجّده باعتباره الطريق المؤدية إلى عظمة الكائن. صار الجوع صنو الجنون ومكّن الراوي من القبض على ما لا يمكن للخيال والعقل أن يقبضا عليه ولا سيما الحالات التي يرقّ فيها الجسد يكاد يتلاشى ويبقى الوعي متوقّدا في مواجهة رعب الوجود بالكلمات. وحدها الكلمات هي ما ينتشل الروح فلا تغادر جسدا رقّ حتى غدا محض وهم. هذه التجربة هي التي جعلت هامسون يؤيّد هتلر ويعتبره المخلّص والمنقذ. فهو يرجع جميع محن بلاده إلى غطرسة الانجليز وسيطرتهم على الدنيا. يخبرنا الكاتب النرويجي اينغار سليتين كولوان Ingar Sletten Kolloen في كتاب ضخم (1300 صفحة) ألّفه حول كنوت هامسون واختار له عنوان “كنوت هامسون حالما وغازيا” أن هامسون ظل مناصرا لهتلر حتى بعد سقوط النازية. وحين حوكم سنة 1947 باعتباره من المتعاونين مع النازية وغرّم بمبلغ مالي هائل أدّى إلى إفلاسه بالتمام صرخ قائلا: “اليوم جرّمتني المحكمة العليا، واليوم توقفت عن الكتابة وطلقتها”. يذكر كولوان أن هامسون التقى بهتلر سنة 1943 وكان هامسون قد بلغ يومها سن الرابعة والثمانين. بالكاد كان يسمع ما يقال له. فكان يقاطع هتلر ولا يتركه يتكلّم فيما كان المترجم مذهولا وجلا من غضب هتلر. وفيما كان هتلر منشغلا بما يجري على الجبهة الروسية من هزائم كان هامسون يرفع قبضتيه مطالبا بإعدام ممثل هتلر في النرويج لأنه بالغ في قمع النرويجيين ولم يتلفّت إلى العدو الانجليزي إلا لماما.