ما هي مصائر الحضارات وهي تفنى تحت تروس الزمن وأهواء الطبيعة وقوانين تبدلاتها لو لم يبتكر الإنسان الكتابة والكتاب؟ إن الرقميات والأحافير التي يقرأها علماء الآثار اليوم لا تقدم سوى شفرات وجزيئات من معرفة كلية غائبة عن حياة اكتنزت بالتفاصيل والمنجزات والعادات والقيم الروحية والمادية. معرفة جزئية تسمح للافتراضات أن تعيد صياغتها على غير حقيقتها الواقعية في أغلب الأحوال، بينما اتسمت الفترة الزمنية للحضارات بعد التدوين بمعرفة توثيقية أكثر تفصيلاً ودقة وصدقية، عبر صفحات الكتب، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نحن نعرف اليوم تاريخ الحياة العربية منذ أحد عشر قرناً على الأقل بكل تفاصيلها ودقتها، بكل منجزها التاريخي والعمراني والفكري والاجتماعي من خلال المخطوطات العربية التراثية، كما نعرف تواريخ الحضارات والمجتمعات الأخرى من خلال تراثها المدون على صفحات الكتب، وعلى الرغم من أهمية الثقافة الشفاهية التي تجري إعادة الاعتبار إليها، إلا أنها تبقى محدودة الزمن، متبدلة عبر النقل الشفاهي وخيال الرواة، بل إن إعادة الاعتبار تعني تدوين الشفاهي قبل أن يمحى من الذاكرة وتتغير الوقائع كلياً بتغير الأجيال وثقافاتها المكتسبة. منذ تطور الطباعة وتقنياتها، وسهولة استخدامها، أصبح الكتاب ضرورة حضارية ولازمة يومية ومنجزاً إنتاجياً لا يستهدف الثقافة وحدها، بل الربح والتجارة أيضاً. وعلى الرغم من تفشي الأمية بين مجتمعات الدول النامية، وعلى الرغم من أن عادة القراءة كضرورة معرفة وحياة وسلوك لم تكتسب بعد عند الغالبية الساحقة من المتعلمين في الدول العربية على سبيل المثال، إلا أن (الكتاب/ الكتابة)، لا يكف عن الصدور بدءاً من الصحيفة اليومية حتى الموسوعات والمعارض السنوية. واليوم، وبعد انتشار تقنيات الحاسوب وشبكات الإنترنت، تنتشر الأقاويل والشائعات، لتبشر بانتهاء دور الكتاب أو موته، كما قالوا بموت الشعر بظهور الرواية، وموت الثقافات المتعددة بظهور العولمة. وحين نتأمل هذه الأقاويل ندرك كم أن شغف التهويل والمبالغة والتعميم متأصل في مجتمعاتنا، ففي غياب العقل العلمي البرهاني يصبح الفرد مجتمعاً، والحدث ظاهرة، والوقت دهراً. لكن تفنيد هذه الأقاويل يستدعي فحص أسبابها وغاياتها، فشبكات الإنترنت لا يمكن أن تقدم كتاباً كاملاً على صفحاتها فكيف بالكتب؟ وهي إذ تقدمها فإنما تقدم معرفة جزئية أو ترويجية، خاصة فيما يخص الشبكات العربية، ثم إن آلاف المواقع على شبكة الإنترنت ما هي إلا (دكاكين)، بعضها يتسع كالمتاجر وبعضها بقالات، أما الجانب المعرفي، فإنه لا يكفي لإنجاز بحث صغير يستند إلى عشرة مراجع على سبيل المثال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن القراءة على شاشة الحاسوب تقتضي أولاً أن تملك جهازاً، وهو أمر لن يتيسر للبشرية كلها، في عصر تنمو فيه مؤشرات الفقر والأمية باطراد مفجع، ثم إن القراءة على الشاشة لا تشبه القراءة في صفحات الكتاب، من حيث الزمن، وسهولة التنقل، واختيار المكان، ووضعية القراءة، والتكلفة. فالكتاب تشتريه مرة واحدة ويصحبك طوال العمر، ويصبح تحت تناولك في أية لحظة تشاء وبمنتهى السهولة وأقل الجهد، وحتى الآن يسعى المجتهدون جداً وعشاق الإنترنت إلى طباعة أو تخزين المعلومات التي يرغبون في قراءتها بتعمق وتفكر، أو كمرجعية وإسناد. فكيف يمكن أن ينتهي دور الكتاب حتى لو امتلكنا خيالاً علمياً يسمح لنا باستشراف المستقبل؟ hamdahkhamis@yahoo.com