لوالدتي –حماها الله- قاموسها الخاص، فعادة ما تحييني إذا أقبلت أو تحدثت معها عبر الهاتف بجملة: “أهلا خميسه”؛ والحقيقة أني لم أفكر إطلاقاً في مناقشتها حول سبب هذا الاسم، وأجدني استعذبه، لكوني أتأكد وقتها أن حالها طيب، ومزاجها رائق؛ وبالتأكيد لن أخبركم بالكلمة الأخرى التي تناديني بها، عندما تكون عكس ذلك! وأمي كباقي الأمهات –أطال الله أعمارهن- اللاتي لهن قاموس خاص ومميز يستخدمنه مع أبنائهم، تكاد لا تتكرر مفرداته عند الأخريات. أيقظت لدي هذه الفكرة الست “أم وليد”؛ ولمن لا يعرف أم وليد، أقول له إنها والدة البطل في رواية ربعي المدهون “السيدة من تل أبيب” والتي ظلت تنتظر عودته بعد غياب دام 38 عاماً، وقد وجدتها أكثر شخصيات العمل روعة وقرباً إلى قلبي، لدرجة أني استبدلت اسم الرواية دون استئذان الكاتب باسم “رواية الست أم وليد”. والست “أم وليد”، لها كلمات لاذعة بطعم الزعتر، ونكهة ناعمة بملمس زيت الزيتون، فحكاياها بألوان شجر الضفة و ورود غزة، روتها بلهجتها الفلسطينية اللذيذة؛ ورغم حنقي من استخدام اللهجات في أي عمل روائي، إلا أني استعذبت حضوره على لسان أم وليد، ووجدتني أقرأ جملها بصوت مسموع استطعم حروفه التي أتقن الكاتب نسجها، فظهرت اللهجة بجمال لا تُخطئه ذائقة. يقدم وليد دهمان –بطل الرواية- والدته بقاموسين، أحدهما أسود، فعلى سبيل المثال، إن طلبت منه أمراً ورفض تنفيذه بقوله: “بديش”، ترد عليه بسرعة بقولها: “بدّه اتبدّك”، مما ينتج عنه -رغم أنه لا يعرف البده التي ستبده ولا كيف سيحدث ذلك أصلًا- خوار جسده وتخلي أطرافه عنه. أما قاموسها الأبيض، فلا تنتهي جمله وإن انتهت أطرافها بكلمة “يُُمه”. ولـكل “يَمه” “وأمي” و”ماما” قواميس تُصنعنها في حضارات سرية، كلُ مع أطفالها، تزوده بكلماتها الخاصة وطقوسها التي لا تتكرر، وأجوائها المعبقة بروائح قادمة من أعماقهن المليئة بالحب والخوف والرجاء والقلق والدفء، وكذلك الأمل لهم بأشياء مشرقة مليئة بالبهجة. في حضن الست “أم وليد” الذي لملمت فيه غربة ابنها واغترابه بعد غياب 38 عاما، استنشقت حضن أمي الذي أعرفه منذ ولادتي؛ أطل الله أعمار أمهاتنا، وأبقاهن بقواميسهن المعجونة بتاريخنا الخاص بكل قهقهاته ودموعه، وحبه ووجعه، وكل فرحه وترحه. وكل عام ونحن تحت أقدامكن.